في تغيير منوال التنمية (الحلقة الثالثة والأخيرة ) III- سبل الارتقاء في سلم القيم

لِمَ نريد جميعا تغيير منوال التنمية (بغض النظر عن تعريفنا له ) ؟ السبب بسيط وهو خلق نمو وتنمية إضافيين استحال علينا خلقهما الآن

والغاية واضحة وهي خلق رفاه عام للبلاد وللفئات وللجهات ولعموم المواطنات والمواطنين وهذا مرتهن ضرورة بما يسميه علماء الاقتصاد الارتقاء في سلم القيم .
الارتقاء في سلم القيم يعني أن نكون قادرين على الانتقال من مستوى معيّن في إنتاج السلع والخدمات إلى مستوى أرفع نوعيا كالانتقال من تصدير الخشب الخام إلى تصدير أرقى أصناف المنتوجات الخشبية أي أن تكون البلاد قادرة على افتكاك موقع متقدم في سلاسل الإنتاج المعولم صناعيا وخدماتيا وفلاحيا .
مثال الخشب كان مثالا نظريا ولدينا أمثلة عديدة في الاقتصاد الحقيقي تبيّن الصعوبات الجسام التي نجدها في الارتقاء في سلم القيم رغم المجهودات الكبيرة المبذولة والمثال الأفضل هنا زيت الزيتون الذي مازلنا نصدر الجزء الأوفر منه دون تعليب رغم وجود مؤسسات تونسية اكتسبت خبرات مهمة في هذا المجال .

نحن أمام إشكال أرادت الدولة التونسية تجاوزه منذ ثمانينات القرن الماضي لكننا إلى حدّ اليوم لم نتمكن من ذلك لأن هذا الارتقاء يستوجب ارتقاء عاما في سلم القيم لم نتمكن من بلوغه إلى حدّ الآن رغم التحسن الكبير في جودة الزيت التونسي.
غني عن القول أن هنالك منافسة عالمية شديدة مع دول المتوسط الأوروبية وأننا سنجد عوائق كبرى أمام هذه الرغبة التونسية .

الارتقاء هنا معلومة سبله تبدأ بضمان جودة عالية لإنتاج الزيتون وتجديد وتطوير زراعتنا فيه عبر تطوير البحث العلمي الفلاحي وعمل المهندسين والتقنيين مع أصحاب ضيعات الزيتون ثم تعصير المعاصر وتوفير المخابر التي تسهر على الجودة العالمية للزيت التونسي وهذا لن يكون إلا بانتداب كفاءات عليا في التحليل وفي ضبط المواصفات الضرورية للجودة ثم تأتي المرحلة الأصعب وهي خلق «الماركة» التونسية بالإضافة إلى الموجود الوطني الآن والجهد الإضافي في ابتكار أشكال التعليب الأكثر جاذبية ومرحلة اقتحام الأسواق التقليدية والجديدة بهذه الماركات التونسية والقيام بحملات اشهارية عديدة ومكلفة المقصود منها أن يطلب المستهلك الأوروبي أو الآسيوي أو الأمريكي ماركة معينة من الزيت التونسي وأن تكون هذه الماركة متوفرة في أهم مواقع الاستهلاك في العالم..

كما يعني الارتقاء في القيم أن تكون مخابرنا ومؤسساتنا الاقتصادية قادرة على إنتاج العديد من المواد أو المستحضرات التجميلية أو الطبية لا فقط من الزيت بل وأيضا من المرجين والبحث في طرق تثمينه الممكنة حفاظا على البيئة ومزيد خلق القيمة المضافة .

الارتقاء النوعي في سلم قيم إنتاج وترويج زيت الزيتون يُعد لوحده منوالا تنمويا جديدا قائما على ضخ الذكاء والابتكار وعلى تكوين يد عاملة وتقنيين ومهندسين وكفاءات في التسيير والتسويق في أعلى مستوى وهذا يستوجب قطعا وجود دولة مُخطِّطة (Un Etat stratège) قادرة على مرافقة واستباق هذه التحولات عبر خلق شروط إمكان تعليم وتكوين مهني ذي جودة عالية وشعب فنية وهندسية قادرة على تحقيق هذه القفزة النوعية ودعم ومرافقة كل مؤسسات القطاع الخاص التي تريد الانخراط في هذا الارتقاء المنشود في الداخل خاصة في الأسواق العالمية وفي طريقة اكتساحها على امتداد سنين إن لم نقل عقودا..

ماهو صالح لزيت الزيتون صالح لكل قطاعات الإنتاج الغذائية والصناعية والخدماتية،أي أن الارتقاء في سلم القيم يستوجب قبل كل شيء إصلاحا جذريا للمدرسة (من السنة التحضيرية إلى الدراسات ما بعد الجامعية)وللتكوين المهني بكل درجاته بجعل التفوق والتميز أفقا واقعيا لكل روادهما كما يستوجب دولة مُخططة قادرة على رسم الأهداف البعيدة الطموحة والمراحل الضرورية لبلوغها ..دولة تسهر بصفة فعالة على إرساء قواعد تنمية شاملة تدمج الجنسين(المرأة تمثل إلى حد الآن اقل من %30 من السكان النشيطين) وكل الفئات والجهات ولا تجعل الازدهار حكرا على فئات معينة من بنات وأبناء السواحل..
أخيرا لا يمكن الانطلاق في مشروع ضخم كهذا دون التخلص من أوهام الإيديولوجيا المدمرة عند الحكام خاصة وعند جلّ النخب ودون طبقة سياسية قادرة على قيادة كل هذه التحولات الضرورية (ونحن لم ننشر هنا إلا بعضها فقط) ودون رؤية جامعة تؤكد انه لا مجال للرقي دون العمل والعمل ثم العمل وأن كل تونسية وتونسي فاعل اقتصادي ومساهم بمقادير في هذا الحلم الجماعي ..

دول عديدة (خاصة في آسيا) تمكنت من هذه القفزة النوعية في سلم القيم بفضل عمل وتضحيات جيل كامل على الأقل ..

يمكن لتونس أن تكون دولة متقدمة علميا وتكنولوجيا وصناعيا وخدماتيا في أفق 2050 شريطة أن نعمل وفق رؤية رائدة منذ اليوم على استخراج الثروة وتنميتها والارتقاء بها بالعمل والذكاء والإبداع أما إذا بقينا ننتظر «الثروات المنهوبة» سنكون كذلك الذي يرى تكثف البخار الخارج من المياه الساخنة دون أن يكون قادرا ولو على تصور بسيط للمحرك البخاري .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115