الحرب على الفساد: أيهما أولى بالمواجهة... الأعراض أم الداء ؟

تهيمن مصطلحات الحرب على الخطاب السياسي اذا تعلق الامر بمقاومة الفساد وقد تكرر هذا مع كل الحكومات التي تعاقبت على البلاد ورفعت لواء مقاومته

والحدّ منه بعد ان قدمته على انه اصل البلاء في تونس وليس عارضا من اعراض مرض عضال اصابها، وهو الوهن والتفكك الذي طال كل منظوماتها المسيرة لشؤونها دون استثناء.
ففي تونس يقدم السياسيون والماسكون بمقاليد حكم البلاد خطابا انطباعيا عن الفساد وتداعياته على البلاد لا يختلف في مفرداته او انساقه عن الخطاب السائد لدى جزء من التونسيين الذين استنتجوا ان الفساد يعالج بملاحقة رؤوسه قضائيا ومحاسبتهم دونما حاجة الى تفكيك شبكة الفساد ولا إلى معرفة لماذا بعد كل الحروب التي وقع خوضها لا يزال الفساد طاغيا على المشهد.

ان المقاربة التي تقاطع فيها الفاعلون السياسيون مع المواطنين في علاقة بمقاومة الفساد تنطلق من اعتبار أن الفساد هو «المرض» الذي اصاب جسد الدولة وهذا ما ادى الى ان تكون اليات وخطط مواجهته قائمة بالاساس على تتبع حفنة من الفاسدين وملاحقتهم قضائيا او التشهير بهم في الخطاب السياسي وشيطنتهم دون تحقيق نتيجة فعلية على الارض تعكس نجاح هذه المقاربات.

مقاربة باتت كحلقة مغلقة تعيد تكرار نفسها خلال السنوات الخمس الفارطة على الاقل حينما باتت الحرب على الفساد من العناوين الرئيسية للحكومات او الرؤساء في تونس، ولا احد طرح السؤال عن سبب عدم نجاح المساعي المبذولة في الحد من الفساد ومحاصرته واذا طرح فان الاجابة الجاهزة هي اما شبكة الفساد قد احكمت قبضتها على الدولة واجهزتها والفاعلين فيها او عدم جدية الحاكمين في محاربة الفساد واقتصارهم على الجانب الفرجوي والسياسوي في الحرب.

بعيدا عن الاجابات الجاهزة وجب البحث فعليا عن سبب عدم تحقيق هذه الحرب التي بلغت عامها السادس منذ اشهر أي هدف من اهدافها العاجلة وهي «الحد» من الفساد وتطويقه. وهل ان السبب في السياسات المتبعة ام ان السبب في التشخيص الاولي وفي اختزال الامر في مقولات سطحية جاهزة تغفل عن ان الفساد ليس الا نتيجة لفشل اصاب الدولة واجهزتها.

إذا نظرنا للفساد على انه نتيجة او عارض من اعراض العلة الأصلية قد تتضح لنا الصورة اكثر وهي ان الفساد ليس الا الجزء الظاهر من جبل الجليد المخفي تحت سطح البحر، والبحر هنا هو الفتكك الهيكلي الذي اصاب الدولة التونسية وكل منظومتها وأجهزتها مما وفر بيئة ملائمة لاستشراء الفساد وطغيانه على المشهد، بشقيه فساد كبير او فساد صغير.

مثل ذلك ما يحدث في الموانئ التونسية من ممارسات وعمليات تهريب انتبه اليها الرئيس وتطرق لها في لقائه بوزير الداخلية ووزيرة المالية منذ يومين ووصف ما يحدث بالفساد الذي يحمله مسؤلية تخريب الاقتصاد التونسي بسبب عمليات التهريب وشبكة فساد تسللت الى الموانئ التونسية.
هذا القول الصادر عن الرئيس يعبر عن السياسة الرسمية المنتهجة في الحرب على الفساد خلال هذه الفترة على الاقل. وهي سياسة تختزل الازمة في ان «الفساد» هو العلة واستئصاله هو الدواء، وهنا نغفل عن اصل العلة التي نعاني منها والتي أنتجت عارضا هو الفساد.

فالواقع يخبرنا بعكس ذلك، فالفساد الذي يرى الرئيس انه يخرب الاقتصاد الوطني هو في الاصل عمليات «تهريب» تتم عبر الموانئ البحرية والمنافذ الرسمية الى التراب التونسي، وهذا يقودنا الى البحث عن كيف تتم العملية ولماذا تتم واي منافذ وثغرات في القانون التونسي يقع الاستناد عليها للقيام بهذه العمليات. لنقف هنا على معضلة اكبر من الفساد وهي ان كل المنظومات المتداخلة في عملية تنظيم دخول وخروج السلع من تونس واليها تعاني من تآكل هيكلي جعلها تمثل حاضنة للفساد وشبكاته.

فالمدونة التشريعية المنظمة للعمليات الجمركية وللإجراءات الديوانية وكل ما يتعلق بها باتت اليوم عقبة وعائقا امام حركة السلع وتضيق عليها بما يوفر هوامش تتحرك فيها شبكات الفساد التي تستغل نقائص في النص القانوني تمكن بعض من المتداخلين من سلطة تقديرية يقع الانحراف بها احيانا.
والأزمة هنا لا تقتصر على المدونة التشريعية على أهميتها باعتبار ان التضييق على النشاط الاقتصادي وتوظيف الدولة لأجهزتها ومواردها لتعزيز اركان اقتصاد الريع يؤدي في النهاية الى خلق بيئة حاضنة للفساد ومشجعة عليه- بل تشمل الازمة الهيكلية كل المراحل والمنظومات، من بنى تحتية عاجزة عن تقديم خدمات لوجيستية تستجيب للمعايير الدولية ومن نصوص معيارية او بروتوكولات تتبع في عمليات نقل وتفريغ السلع او خزنها ..الخ مما يوفر ايضا منافذ للفساد يتحرك فيها بهدف تحقيق الربح.

هذه ليست الا عينة عن حقيقة الوضع التونسي، وهو ان التآكل والشيخوخة اللذين اصابا الدولة واجهزتها التي ظلت حبيسة لمرحلة التاسيس التي انطلقت مع الاستقلال ولم تعمل على ان تتطور او ان تقوم بتحديث آليات عملها ونصوصها القانونية وسياساتها العمومية ولم تجدد في مقاربتها، هو العلة الاصلية التي اصابت تونس، وما الفساد الا عارض يختفي بمعالجة العلة، دون ذلك فان الامر سيكون كمسكنات او خطاب سياسي هدفه صناعة الفرجة لا تفكيك شبكة الفساد وتحرير الاقتصاد التونسي من كل مكبلاته. وهذا لا يعني التقليل من الآثار السلبية للفساد او من ضرورة مجابهته ومحاربته بل هي دعوة الى ان نعيد النظر في الطريقة التي ننتهجها وان نضع خطط ناجعة تؤدي العرض منها وهو تفكيك الفساد وشبكاته.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115