بعد فك اعتصام الدستوري الحر: مـــاذا بعــد هـــذا ؟

ما جدّ خلال الأسبوع المنصرم في شارع خيرالدّين باشا بتونس العاصمة ،عند فك الاعتصام المرخص فيه لأنصار الحزب الدستوري الحر

أمام مقر فرع الإتحاد العالمي للعلماء المسلمين بتونس، يقيمُ الدليل على هشاشة المنظومة القانونية وعلى تحديها حتى من المساهمين في وضعها.
إن ما شهدناه في الحقيقة والواقع كان غريبا عن قيم الجمهورية و المدنية و الديمقراطية والتقدم التي تضمنها الدستور، بعد أن ترجم متبنو شعارات الإسلام السياسي ،خطابا متدنياّ يفتقد إلى أدنى مقومات احترام الرأي المخالف وحق المواطنة و حتى لاحترام الذات البشرية والمعاملات المتحضّرة الّتي يُحترمُ فيها القانون والقيم الأخلاقية العامة .
فبمقولة الدفاع عمّا يُعتبرُ تهديدا للإسلام وفي إطار التشبث بالشعارات التقليدية للنهضة أباح قياديو هذه الحركة لأنفسهم التحوّل إلى موقع الإعتصام أمام مقر فرع الإتحاد المذكور والالتحام بأذرع أتباع ما يُسمّى، باتلاف الكرامة الّذين أصبحوا جسما يهدّد السلم الاجتماعية في تونس. وكان كل ذلك خلافا لما يقتضيه الوازع الوطني الّذي يفترض التصدي لكل ما يمس الوطن وحرمته و سيادته كلما أُستهدف من كيانات ذات امتدادات خارجية مهما كان تصنيفها.
لقد بان الوجه الحقيقي للنهضة وأتباعها مرة أخرى، بمجرد استمرار إعتصام أنصار حزب الدستوري الحر أمام مقر فرع إتحاد العلماء المسلمين جناح الإخوان المسلمين فقد كشفت أن لها مصلحة كبيرة في بقاء هذا الهيكل، بعد أن نفذ صبرها من تمسك الحزب الدستوري بموقفه الرافض لتواجد هذا الهيكل على أرض تونس،لإعتماده مناهج تعليمية وثقافية مختلفة عن المناهج الرسمية و القيم الاجتماعية التونسية المتأصّلة ولشبهات أخرى و مخالفات قانونية أكدتها الهياكل المعنية للحكومة التونسية.
لم تترك حركة النهضة للإدارة التونسية تحديد كيفية التعامل بما تراه لحل الإشكال بالطرق القانونية ،فتدخلت مباشرة بواسطة نواب لها و سياسيين و مؤيدين لفك الإعتصام، وقامت بمثل ما قامت به ما سميت بروابط حماية الثورة و مجموعات «الأمربالمعروف و النهي عن المنكر» ، وكما كانت تفعل ميليشيات نظام بن علي ، الّتي يعرف مستشار الغنوشي محمّد الغرياني صولاتها و جولاتها في تعطيل تظاهرات المعارضة و المنظمات الوطنية والاجتماعات العامة وفي المناسبات الإنتخابية.
لقد إتضح مما حصل و ما زال يحصل أن الأمر كان متوقفا على الضغط على بعض الأزرار كي تعود تونس إلى مربع سنوات 2012 و2013، ليقف الجميع على حقيقة أن البلاد ما تزال على كف عفريت ، و أن كل المكتسبات قابلة للنسف.
كما كشف رئيس الحكومة «المستقلّ» عن مدى إستقلاليته عندما يتعلّق الأمر يشأن يهم النهضة وأتباعها لفك الإعتصام بدعوى الحيلولة دون المواجهات و درء المخاطر . و كشف أيضا عن مدى حرصه على إحترام إجراءات الحجر الصحي و حالة الطوارئ ، وأثبت بصورة جلية صحة اتهامه باصطفافه وراء حركة النهضة الّتي سارعت بتجنيد أبواقها المتحفّزة عبرالمنابر المفتوحة ، لتبرير التصرفات المشينة و المعاملات غير الأخلاقية لبعض اتباعها والّتي إطلع عليها المتابعون للشأن العام،بالصوت و الصورة.
كل هذا ما كان أن يحصل دون مباركة رئيس النهضة الحالم بترأس الجمهورية ، خاصة بعد أن شرّف المقربون منه بالحضور بمكان الاعتصام و صدور تصريحات داعمة لهذا الهيكل ومدافعة عنه ،في تعبير صريح من النهضة على أهميته في منظومتهم السياسية و في منهجيتهم لضمان الإحاطة وكل أشكال الدعم.
هذه المباركة «الراشدة» تأتي في سياق دوام حضور الغنوشي كعنصر فاعل في السياسة التونسية على مر السنوات الماضية في السلطة بإعتباره زعيم النهضة، والمتفرّد فيها بأوسع النفوذ .
لذلك لا أحد يمكنه أن يجد عذرا لإعفاء الغنوشي من الجانب الأكبر من المسؤولية عن سنوات التردي الّتي عرفتها تونس وفي فشله في المعالجة «السياسية» الّتي يتوخاها لاعتماد منهجية الدس و التفتين و النصب والمساومات والضغط والخطابات المزدوجة و التحالفات المشفوعة بالانقلاب على الحلفاء و غيرها. فالهمُّ الوحيد للنهضة أمام كل مأزق ، هو خروجها بأخف الأضرار و تجنب خسارة موقع من المواقع ،و تصفية الخصوم السياسيين بكل الطرق و بشتى السبل .
حصيلة سياسة النهضة هذه و تبعاتها عرفتها عن كثب كل التشكيلات السياسية الّتي تحالفت معها ، وعرفها أيضا العديد من القياديين الّذين كانوا في صفوفها الأمامية وشقوا عصا الطاعة على الزعيم و المقربين منه ووجدت نفسها خارج الصف مجبرة على التنحي و الإنسحاب . أما الحصيلة الّتي جنتها البلاد ، فيمكن معاينتها في ما تعيشه تونس من تمزق و تنافر، و تبعات ذلك على الحياة اليومية للمواطنين .
هذه الحياة التي أصبحت تبعث على التأفف بسبب تمادي النهضة في نفس الخط الّذي تريد تأصيله في الحياة السياسية ، الرامي إلى مزيد تعفين الأوضاع و تفكيك الدولة وتهرئه القوى السياسية المعارضة لها ، بالشكل الّذي يجعل تونس تعيش على وقع «هز ساق تغرق الأخرى». فمسألة الإعتصام ليست وليدة اليوم و الدعوات ضد هذا الهيكل ليس وليد اليوم ، و لكن بقت النهضة تتحيّن الفرصة لتأجيج صراع جديد و تحويل النظر عن متابعة التأزم السياسي الّذي تعيشه البلاد إدخال لخبطة جديدة في الخريطة السياسية .
هذا الخيار انخرط فيه المشيشي و هو ما سيساهم في مزيد توريطه و تهيئة أرضية التخلي عنه بسبب ارتكاب أخطاء فردية سيتحمل ستحسبُ عليه. و هو نفس الخيار الّذي تتّبعه النهضة لإحراج رئيس الجمهورية و دفعه لإتخاذ موقف في هذا الاتجاه أو ذاك لتوريطه في موقف مساند إما للدستوري الحر أو للنهضة ، و هو أمر تجنبه رئيس الجمهورية بملازمته الصمت حيال ما يحدث . كما دفعت النهضة بخيارها هذا ، تنظيمات و شخصيات سياسية ، إلى اتخاذ مواقف ضد الدستوري الحر ،و هو ما أنشأ مواطن جديدة للاختلاف والتفرقة و ذلك للحيلولة دون تشكل تحالفات واسعة منظمة معادية أو منافسة للنهضة . والدليل على ذلك ما أثاره موقف الأستاذ أحمد نجيب الشابي أو ناجي جلول أو حزب الشعب و حزب التيار الديمقراطي و شخصيات منتمية إلى اليسار غيرهم ..
حلبة أخرى بتداعياتها تنضاف إلى ما تعيشه تونس من تأزم ، دون ظهور بوادر حل للأزمة السياسية و الإقتصادية رغم ارتفاع عدد من الأصوات و تنبيهها إلى مخاطر تواصل الأزمة ، فمتى سيعود الوعي؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115