الأمن هو أول الحريات .. ولكن لا أمن بلا حريات !

مازال الرأي العام التونسي يعيش تحت وطأة تلاحق الجرائم المروعة والتي ذهب ضحيتها شابات وشباب في سنّ الزهور وحصلت

بوحشية صدمت مشاعر كل التونسيات والتونسيين ونجد ضمن هذه الجرائم البشعة الاعتداء الوحشي الذي حصل ضدّ النائب بجهة بنزرت أحمد موحه عن ائتلاف الكرامة والذي تعرض لمحاولة اغتيال ولازلنا لا نعرف إلى حد اليوم هل أن دوافع الجناة إجرامية أم سياسية أيضا وبالتالي نكون إزاء عملية إرهابية لتصفية خصم سياسي جسديا ..
لا نعتقد أننا أمام حالة تضخيم تقوم بها وسائل الإعلام الكلاسيكية أو وسائل التواصل الاجتماعي، فالأرقام الرسمية تفيد بتنامي الجريمة في البلاد وخاصة تلك التي تستهدف الأشخاص كما أنّ منسوب العنف اللفظي والمادي في ارتفاع مطرد في كل الفضاءات العامة والخاصة أيضا مما خلق شعورا عند الجميع بالخوف على النفس وعلى أفراد الأسرة والأحبة والأصدقاء، ولعل انعدام الشعور بالأمن هو الذي يدفع بالعديد من التونسيين إلى مطالبة السلط العمومية بتطبيق أقصى وأشاد العقوبات على كل الضالعين في هذه القضايا الإجرامية .
لنتفق منذ البداية على أن الأمن حق وهو حرية كذلك ،إذ لا معنى لحرية الأفراد والمجموعات في حالة انعدام الأمن ، فحرية الفرد ملازمة لشعوره بالأمن والاطمئنان في الفضاءين العام والخاص وفي احترام حرمته الجسدية في كل الحالات وفي كل الوضعيات .
صحيح أنه لا يمكن ضمان القضاء الكلي والشامل على كل هذه الانتهاكات،فالجريمة والاعتداء على الممتلكات والأشخاص لا ينجو منهما بلد في الدنيا ولكن المطلوب من كل دولة بذل كل الوسائل والإمكانيات لتكون هذه الجريمة جزئية ومحدودة وفي تراجع مستمر كذلك ..
إن انعدام الشعور بالأمن يحدّ من حقوق وحريات الأشخاص في التنقل والتجوال وخاصة للفئات المستهدفة بقوة من مثل هذا العنف المتفشي ونقصد بهم النساء والأطفال وكذلك المسنين وأصحاب الاحتياجات الخصوصية والأجانب المقيمين في بلادنا كما لا ينجو أحد مهما كانت بنيته الجسدية من احتمال اعتداء وحشي عليه وأحيانا يكون ذلك لأوضع الأسباب وأتفهها ..
الجريمة ظاهرة اجتماعية ما في ذلك من شك ، والمجرم لا يولد مجرما بفعل عوامل جينية محددة سلفا بل يصبح مجرما بتضافر معطيات شتى منها الاجتماعي والنفسي والعائلي والشخصي والمجالي ..
عوامل ومناخات الجريمة معقدة ولابدّ لنا كمجتمع وكنخب أن ندرسها ونعيها لا لإيجاد أعذار لمقترفيها بل لفهم الميكانيزمات المادية والمعنوية التي تسهم في إنتاجها ..فالدولة لا يمكنها مقاومة ظاهرة ما كالإرهاب أو الجريمة المنظمة أو الجريمة العنيفة أو الجرائم الاقتصادية ما لم تحط بأسبابها واستراتيجيات تطورها وبالمحاضن التي تدعمها وبطرق تفكيك شبكاتها ..
لطالما طالبنا الدولة في هذا الركن ومنذ ظهر التحدي الإرهابي في بلادنا بأن تحدث الدولة جسور التواصل الضرورية بين مصالحها الأمنية (الداخلية والدفاع خاصة) وكذلك مختلف وسائل تدخلها في السياسات العمومية كوزارات التربية والثقافة والتكوين والشباب وغيرها وبين الجهات الأكاديمية لتكوين فرق بحثية ومخابر مختصة في فهم كل أصناف هذه الجرائم وإعداد الخطط العمومية لمواجهتها .. إن هذا الانفتاح على الجامعة والعالم الأكاديمي ضروري لكي لا نقاوم الجريمة بأصنافها فقط بالهياكل الأمنية لأننا عندها نكون قد خسرنا المعركة وأبقينا الدولة في موقع ردّة الفعل بينما المطلوب هو الاستباق والفعل ..
لاشك أن الجريمة لن تتراجع بصفة هامة إلا متى تمكنا من خلق شروط إدماج الغالبية الساحقة من مواطنينا عائليا ومدرسيا ومهنيا ولكن لا ينبغي انتظار عقد أو عقدين من الزمن لكي نطور أساليب أكثر نجاعة لمحاصرة الجريمة ولخلق الشروط الموضوعية لكي يشعر كل التونسيات والتونسيين بالحدّ الأدنى المقبول من الأمن في الفضاءين العام والخاص .ومحاور العمل واضحة هنا : تفكيك الشبكات الإجرامية وكل النقاط المجالية الخارجة اليوم عن سيطرة الدولة وان تكون الدولة حاضرة في كل شبر لا فقط بقوتها الأمنية – وهذا ضروري – ولكن أيضا بكل خدماتها العمومية وأن يتوفّر لكل بناتها وأبنائها الحد الأدنى من شروط النجاح المدرسي والمهني .
لا ينبغي أن نكون ملائكيين فالجريمة لن تتراجع دون سياسة ردعية ملائمة قوامها عدم التسامح مع أي انحراف مهما كان جزئيا ولا نقصد هنا سجن كل مذنب حتى لو كان قاصرا بل الانتباه إلى الانحراف واحتوائه منذ بواكيره الأولى وعدم ترك ولو بؤرة واحدة مطمئنة للجريمة .
ولكن نخطئ لو نعتقد أن القوة الأمنية للدولة هي التي يمكنها أن تضع حدّا لتنامي الجريمة ، بل يمكن أن تفاقمها لو كانت غاشمة وجزئية في نفس الوقت أي لو استهدفت مناطق بعينها بقوتها المادية باعتبارها أوكارا فعلية أو محتملة للجريمة ..فقوة الدولة الردعية الضرورية لابد أن تتناسق مع قوتها الإدماجية ومع معاملة كل مواطنيها وفق الحقوق والحريات التي يضمنها لهم دستور البلاد وألا نكون قد أسهمنا في خلق أجيال من الحانقين على الدولة ولن تتمكن أية قوة أمنية غدا من السيطرة عليها .
فالدولة القوية ليست تلك الدولة التي تظهر عضلاتها للجميع بل هي الدولة التي تطبق القانون على الجميع وتوازي بين الإدماج والعقاب وبين التوقي والمعالجة الأمنية دون إفراط في القوة أو عدم الاكتراث بما يسمى بالجريمة الصغيرة ..
نحن أمام ظاهرة معقدة : العنف المتفشي في المجتمع وكذلك أمام مطلب جوهري لكل المواطنات والمواطنين وهو توفير الأمن للأفراد وللممتلكات في ظل دولة ديمقراطية قوية تنضبط للقانون وتضمن الحريات الفردية والعامة ..
أمام هذا التعقيد يكون من المضر للغاية أن يلجأ جزء من الطبقة السياسية، وأيضا الإعلامية ، النافذة إلى خطاب السهولة والشعارات الشعبوية واللعب على آلام وأحزان ومآسي الضحايا وعائلاتهم ، ويكون من الخطير جدّا أن تتقدم الدولة مقسمة ومنهكة بصراعات الأجنحة داخلها لأننا بذلك نفاقم شروط إنتاج الجريمة ونحطم ما بقي من روابط عيشنا المشترك .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115