التوتر بين النص والواقع خاصة في مراحل التأسيس الأولى..
نظريا يؤسس الدستور التونسي لنظام برلماني معدل ، أي نظام يقوم على شرعية أساسية وهي شرعية البرلمان كمعبر عن إرادة الشعب ،وهي شرعية معدلة بانتخاب رئيس الجمهورية بصفة مباشرة من الشعب وما يعبّر عندنا عن هذه الأولوية المعدلة ولاشك هو الفصل 89 المنظم لتشكيل الحكومات.
تقوم الحكومة في الدستور التونسي إثر الانتخابات التشريعية أساسا ويشكلها بداية الحزب أو الائتلاف الفائز بالانتخابات التشريعية وحتى في صورة فشل هذه المرحلة – كما كان الحال في حكومة الحبيب الجملي–فرئيس الجمهورية الذي يتولى التعيين المباشر في مرحلة ثانية إنّما يفعل ذلك بعد «مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية» وتكون غاية هذه المشاورات تكليف «الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة».
لا شيء يفرض دستوريا تزامن الانتخابات الرئاسية والتشريعية إذ يمكن أن تفصل بينهما سنة أو سنتان .. أي لنفترض أن الانتخابات التشريعية حصلت مثلا في سنة 2020 وتأسست عليها حكومة منبثقة من الحزب أو الائتلاف الفائز ثم جرت انتخابات رئاسية سنة 2023 بأغلبية سياسية مغايرة فالرئيس القادم ، صاحب الشرعية الجديدة، لا يمكنه حل البرلمان قصد إحداث تناسق بين الشرعيتين ولا حتى إجبار الحكومة القائمة على الاستقالة،وهذا هو عين النظام البرلماني بأشكاله المختلفة حيث تكون الانتخابات التشريعية هي المحرار الأساسي للحياة السياسية وهي منطلق كل شرعية حكومية ..
ما حصل في تكليف الياس الفخفاخ وخاصة هشام المشيشي هو شيء آخر مختلف تماما عمّا افترضه واضعو الدستور التونسي : فرئيس الدولة يدخل في عملية التعيين بصفة هامة في الحالة الأولى وبصفة كلية في الحالة الثانية واعتبر نفسه غير ملزم بنتيجة المشاورات مع الأحزاب والكتل البرلمانية وأن الدستور أوكل له وحده اختيار «الأقدر» وأن رأي البرلمان (أي الكتل والأحزاب) لا يعتد به في تقدير من هي الشخصية الأقدر ، وبذلك يقضي قيس سعيد على تلك الازدواجية الهيكلية في السلطة التنفيذية بين رئيس الدولة المنتخب من قبل الشعب ورئيس للحكومة المعين من قبل الأغلبية البرلمانية ..
لو نالت حكومة المشيشي بعد أسابيع قليلة ثقة البرلمان نكون فعليا – لا دستوريا- قد دخلنا ما يشبه النظام الرئاسي أي هرمية واضحة بين رئيس الدولة وما يسميه الدستور برئيس الحكومة والذي سيتحول فعليا إلى وزير أول أو رئيس للوزراء وتكون رئاسته للحكومة، اي للسلطة التنفيذية ، رئاسة تفويض لا رئاسة أصلية.
لاشك إن من وضع دستور 2014 ومن هندس للنظام السياسي لم يتوقع البتة هذه الطريقة في تطبيقه بل أن الراحل الباحي قائد السبسي والذي كان لا يخفي عدم اقتناعه بالنظام البرلماني وبضرورة تطويره نحو نظام رئاسي معدل لم يقدم ، في اللحظات الفارقة ، على فرض قراءة رئاسية للنظام السياسي بل كان معه وخاصة خلال خلافه مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد ومساندة حركة النهضة لهذا الأخير قد عشنا التطبيق «المثالي» للنظام البرلماني الذي لا يترك فضاء سياسيا كبيرا لصاحب قرطاج ..
ولكن من حيلة التاريخ على حد عبارة الفيلسوف الألماني العظيم هيغل أن القراءة الرئاسية فرضها من لا يملك حزبا ولا نائبا واحدا في البرلمان ..
يخطئ من يعتقد بأنه يمكن لرئيس الدولة أن يفعل ما يشاء لأنه يبقى محكوما بنصوص الدستور ، فهو مثلا لا يمكنه أن يحل البرلمان إلا في الحالتين اللتين ينص عليهما الدستور وهو لا يمكنه أيضا تغيير النظام السياسي في النص ما لم يصادق البرلمان بأغلبية معززة (الثلثان) على هذا وما لم تكن هنالك محكمة دستورية كذلك ..ولكن يمكن لرئيس الدولة أن يفرض نسقه على البرلمان وبإمكانه أيضا فرض حكومة لا تستسيغها الأغلبية النسبية في البرلمان ( النهضة وحلفاؤها أساسا) وحتى لو تم إسقاط هذه الحكومة منذ البداية بعدم منحها الثقة فيبقى هو صاحب الزمن السياسي إذ بإمكانه حل البرلمان فورا أو الإبقاء على حكومة الياس الفخفاخ كحكومة تصريف أعمال لفترة قد تطول .
وما دام الرئيس هو وحده المُؤَول للدستور فإن المتاح أمامه اكبر بكثير مما هو متاح لكل اغبية هشة داخل البرلمان ..ولكن من جهة أخرى سيتحمل قيس سعيد مباشرة نتائج حكومة هو من هندسها وفرضها كأمر واقع ، ولم يعد بإمكانه غدا التعلل بأغلبية برلمانية تعيق الإنجاز ما دام قد أصبح – لو مرت حكومة المشيشي- هو شخصيا صاحب السلطة التنفيذية كاملة ..
حيلة التاريخ لا تلغي جدله ولا تلغي خاصة عمل السلبي (le travail du négatif) فتماهي الدولة مع العقل سيجعل منهما الاثنين، الدولة والعقل (المدبر لها) أمام محكمة يحبذها قيس سعيد كثيرا : محكمة التاريخ .. فالذي يريد كل شيء ينبغي له أن يستعد كذلك لخسارة كل شيء.