تونس تحتاج إلى قيادة فعلية !

عندما نرى كل مظاهر التفكك والارتباك في أداء مختلف مؤسسات وهياكل الدولة مركزيا وجهويا ومحليا ندرك بوضوح أننا أمام نهاية منظومة كاملة ..

لا منظومة الثورة والحرية والكرامة التي انطلقت شرارتها الحاسمة منذ عقد من الزمن كما قد يتوهم ذلك البعض..بل منظومة حكم البلاد وحوكمة السلطة ذاتها وكيف أن تعدد محاورها وأجنحتها والتي أريد بها القطع مع السلطة المستبدة قد تحول إلى عطالة وعجز عن الفعل ولا استقرار دائم وتفشي نظام القبائل الجديدة المفتئتة على الدولة والتي تبتزها باستمرار حتى صرنا أمام شكل ظاهري من الوحدة ولكن دون لبّ وروح وقيادة وعقلانية وفاعلية.

أين يكمن الإشكال ؟ في النظام السياسي أم في النظام الانتخابي ؟ في اعتقادنا الأمر أعمق بكثير من هذا فهو في منظومة السلطة وفي اعادة بناء علاقة ثقة بين المجتمعين السياسي والمدني أي في النهاية بين الدولة والمجتمع، هذه العلاقة التي اهتزت بصفة جذرية مع الثورة ولم ننجح إلى حدّ الآن في بداية رتق ما انفرط عقده .

من الناحية النظرية النظام السياسي الذي اخترناه في دستور 2014 يؤمّن توزيع السلطة ويؤسس لديمقراطية وطنية ومحلية لا يتحكم فيها طرف واحد ..ولكن الممارسة العملية بينت بوضوح أن هذا النظام ورغم ميزاته النظرية الكبرى لم يقدر على التلاؤم مع طبيعة المرحلة التي تعيشها البلاد ولم يفرز السلطة القادرة فعلا على الحكم دون تغول ودون عودة إلى تقاليد الدولة المركزية الاستبدادية ...ثم إن الأساسي في كل دولة لا يكمن فقط في النصوص بل أساسا في ممارسة أهم الفاعلين وطريقة تطبيقهم لهذه النصوص.. والنتيجة واضحة جلية : انحراف كلي بفكرة التشاركية أو التدبير الحرّ على مستوى السلطة المحلية ليتحول كل هذا إلى عجز مزمن للسلطة التنفيذية عن قيادة فعلية للبلاد تحاسب عليها بعد نهاية كل عهدة انتخابية.

لقد تحول عندنا توزع السلط بين رأسين في السلطة التنفيذية والسلطتين التشريعية والقضائية والسلطة المحلية (الآن بلديات وغدا جهات وأقاليم) وسلطة خامسة أسندت إلى الهيئات الدستورية ذات مجال التدخل المحدود ولكن الجوهري في كل ديمقراطية..لقد تحول توزع السلطة بين كل هذه الأقطاب إلى تنازع مستمر في الصلاحيات واستراتيجيات للاستقواء وللي الذراع بين مختلف هذه الأجنحة والمكونات بل وصل الأمر ببعض المجالس البلدية – كما هو حاصل الآن في بلدية الكرم – إلى رفض تطبيق قوانين الجمهورية وادعائها تأويل القانون والشريعة وفق اجتهادها بما يدق إسفينا في عمق مفهوم الدولة كوحدة للتشريع والتنفيذ والمحاسبة .

من يحكم الآن في تونس ؟ لا أحد يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال لأن الحكم متنازع فيه وعليه من قبل شرعيات مختلفة ومتناقضة، ولكن ليست كلها شرعيات انتخابية منتخبة مباشرة من الشعب كرئيس الجمهورية ومجلس نواب الشعب والمجالس البلدية اليوم وغدا الجهوية الإقليمية ولكن أيضا من شرعيات اجتماعية كالنقابات أو شرعيات المطالب الاحتجاجية كالحركات الاجتماعية أو مراكز النفوذ المالي والإعلامي وغيرها من قوى الضغط والفعل.

تغيير النظام السياسي في تونس لن يلغي جلّ هذه التنازعات بل يسمح فقط بالحدّ منها وبإعطاء سلطة منتخبة ما القدرة على الحكم الفعلي ..

الإصلاح الأول والعاجل يتمثل في توحيد السلطة التنفيذية فإما رئيس للدولة منتخب مباشرة من الشعب بكامل صلاحيات السلطة التنفيذية أي إلغاء منصب رئيس الحكومة وإعطاء سلطة التعيين والإقالة لكامل الطاقم الحكومي للرئيس المنتخب على أن تعرض كل حكومة جديدة على البرلمان لنيل الثقة أو إلغاء انتخاب رئيس الدولة مباشرة من الشعب وإسناده دورا تشريفاتيا ورمزيا لا غير وحصر كل السلطة التنفيذية عند رئيس الحكومة والذي يجب أن يكون ضرورة هو زعيم الأغلبية الفائزة في الانتخابات التشريعية .

علينا أن نختار بين هذا وذاك أما المزج بين النظامين فقد تأكدت مضاره على تونس اليوم..وفي كلتا الحالتين أيضا لابد من تغيير النظام الانتخابي لكل المجالس من البرلمان إلى البلديات حتى يتمكن الفائز – أيا كان – من أغلبية تسمح بالحكم أو بالمراقبة الفعلية للحكم.
وهكذا نحدث هرمية ضرورية في الانتخابات ذاتها فإمّا أن تكون الرئاسية هي محرار كل شيء أو أن تكون التشريعية ولكن لابد من القطع من الأهمية شبه المتساوية الجاري بها العمل اليوم.

هل هذا هو الحل السحري لأزمة حكم البلاد ؟
بالتأكيد لا ولكنه يسمح لنا بالخروج من هذه الوضعية الخانقة ويطرح على الجميع مسؤوليات جديدة أهمها أن تكون الحملات الانتخابية حول البرامج الفعلية لحكم البلاد اقتصاديا واجتماعيا وطرق الإصلاح الضرورية للنهوض بها وأن يحاسب الفائزون وفق عهودهم ووعودهم ، أما لو واصلنا انتخاب الأحزاب والأشخاص وفق هوية غائمة ووعود شعبوية زائفة فحينها لن يفلح أي نظام سياسي في إصلاح أوضاع البلاد ..

ينبغي لنا جميعا أن نعرف ماذا نريد: حكما قويا قادرا على الإنجاز مع كل ضمانات عدم الانحراف والمراقبة والمحاسبة أم حكما ضعيفا مشتتا يسمح بوجود اقطاعيات ولكنه يقضي على كل أمل للإنقاذ ولتنمية البلاد؟!
البداية تطلق من هنا ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115