بدعوى معاقبة الإعلام أو إصلاحه: احذروا إيقاظ الشياطين !!

أشياء جميلة تحصل في بلادنا اليوم تذكرنا بالأيام الأولى للثورة التونسية: روح مواطنية وعودة للثقة ومبادرات

شبابية لتنظيف الأحياء والمدن يسندها المواطنون والتجار والصناعيون ..

ولكن مع هذا الجمال يطل القبح بوجهه من جديد تحت مسميات جميلة ولكنه حامل لعنف واضح ولشحناء غير خفية ..

المظهر البادي اليوم لعودة هذا المكبوت السلبي هو العنف المادي والرمزي الذي يتعرض له الإعلام اليوم تحت شعار أن بعض وسائله معادية للثورة ولا تفرح لفرح التونسيين وتبث السموم وانه آن الأوان للجم هذه الأصوات وان يكون الإعلام في خدمة «الثورة» أي في خدمة المنتصرين دون سواهم ..

بين هذه «التنظيرات» التي تجد من يدعمها بلغة «مهذبة» لدى من يعتبرون أنفسهم قد انتصروا اليوم ،وخاصة عند الأحزاب والجماعات الاسلاموية،وبين العنف الذي طال بعض الصحفيين على الميدان وتلك الحملات الحادة على شبكات التواصل الاجتماعي وشائج قوية ذهنية وإيديولوجية.

نفس الأسباب تؤدي حتما إلى نفس النتائج على الأقل عند البعض ،فمصطلح الثورة يشحن عندهم بمناخات عنيفة،إذ للثورة «أعداء» وهؤلاء «الأعداء» ينبغي إخماد أصواتهم أو كسر شوكاتهم أو الاثنين معا .

لاشك انه لا مقارنة – إلى حد الآن – بين العنف المادي واللفظي والسياسي الذي شهدته البلاد في السنوات الأولى للثورة مع ما حصل الآن في بعض الحالات المنفردة،ولكن ما يخيفنا هو أن تشتغل آلة العنف بحجة الدفاع عن «ثورة الصندوق» ضد أعدائها وان تجد هذه الدعوات من يبررها سياسيا تحت شعار : التأقلم مع الوضع الجديد.

نعلم جميعا أن هنالك مجموعات متطرفة عنيفة صغيرة العدد قد أطلق لها العنان زمن الترويكا تحلم بالعودة إلى الساحة وباستعمال بعض شعارات الثورة كـ«الشعب يريد» لفرض نوع من الأمر الواقع كلما أمكن لها ذلك وباستعمال العنف إن لزم الأمر ..

لا نعتقد لحظة واحدة أن الرئيس المنتخب ولا كذلك الشباب المقتنع بمشروعه دعاة عنف،بل هم أصحاب أفكار يعرضونها على الناس ولكن هنالك من يريدون التستر وراء هذا الزخم الشعبي الهائل ليجدوا لهم منافذ لاختراق المشهد..

الإعلام ليس جسدا متجانسا وفيه تعددية واسعة اليوم ومآخذ عدة ولاشك، ولكن الاعتداء على إعلامي واحد أو على وسيلة إعلامية واحدة هو اعتداء على الشعب التونسي بأسره وعلى الثورة وقيمها وعلى البناء الديمقراطي الذي مازلنا نسعى جميعا لتحصينه من الارتداد ..فالاعتداء على الكلمة مهما كانت ظالمة هو اعتداء على الإنسانية جمعاء وهذا ما لا يدركه العنيفون والمتطرفون ..

لا احد يمكنه أن يشكك في حرص نقابة الصحافيين على احترام ميثاق شرف المهنة وهي إذ تحذر اليوم من هذه المخاطر الجديدة فعلى كل الحاكمين الجدد،وعلى رأسهم الرئيس المنتخب ،أن ينتبهوا من إفلات الشياطين من عقالها ومن تحول مظاهر العنف المعزولة إلى استهداف مستمر تماما كما حصل ذلك سنتي 2012 و2013.

إن حماية حرية الإعلام مبدأ دستوري واضح في الفصل 31 «حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات» ومادام يمنع ممارسة الرقابة المسبقة فمن باب أولى وأحرى العنف والتهديد وكل ما يمس منها ونعتقد – كما ترى ذلك نقابة الصحافيين – انه على الرئيس المنتخب أن يدين كلما استدعى الأمر ذلك هذه الممارسات المتهورة وان يدعو الى زجرها وتطبيق القانون بكل صرامة على المعتدين ..

وللأسف ليست هذه المجموعات المتطرفة قليلة العدد، هي التي تهدد حرية الإعلام بالاعتداء على الإعلاميين، بل ونجد نبرة خلناها خلت منذ سنة 2014 عند قادة من الحزب الفائز، حركة النهضة، يدعون فيها إلى نوع من الاصطفاف الجديد وراء المنتصرين ويريدون بوضوح وضع اليد على الإعلام العمومي وتحويله، كما حاولوا ذلك ابان الترويكا، الى اعلام حكومي..

نحن لا ندعي أن الإعلام فوق النقد أو أداء بعض وسائله لم يقم باخلالات جسيمة ولكن من يتهجم على الإعلام اليوم انما يفعل ذلك بدافع قمع المختلف ووأد كلمته في المهد ولذا وجب تجنيد الجميع للدفاع عن هذه الحريات، لان حرية الإعلام هي أساسا حرية المواطن في النفاذ إلى المعلومات ووجهات النظر التي تزعج كل سلطة حاكمة ..

بقي انه على الإعلاميين وعلى هياكلهم المهنية وعلى الهيئة التعديلية «الهايكا» تقييم جدي وعميق لأداء مختلف وسائل الإعلام خلال هذه السنوات الأخيرة .

إن احترام وتحقيق التعددية مسالة أساسية في وسائل الإعلام ولاسيما الجماهيرية منها ولا عيب في اختيارات تحريرية مختلفة ومتناقضة فذلك إثراء للمشهد وضمان للتعددية ولكن ينبغي ان يكون ذلك مؤطرا بالقانون لا تمردا عليه وان تلعب كل وسائل الإعلام غير الحزبية دور الوسيط النزيه بين مختلف دوائر القرار والمواطنين وألا تخضع لاملاءات حزبية أو شخصية وألا تتحول من وضعية الوسيط النزيه الى الفاعل السياسي غير النزيه ،وهذا ما اشرنا اليه في عديد المرات خلال هذه الحملة الانتخابية الماراطونية ..

نؤكد انه لا علاقة بين الأمرين فدعاة العنف يرفضون الكلمة المغايرة ولكن لا يجب كذلك أن يتستر الإعلاميون وخاصة وسائل الإعلام الجماهيرية تحت واجب التضامن المهني لغض البصر عن استراتيجيات إعلامية سياسية تخرق القوانين وتهتك أخلاقيات المهنة ..

للأسف وبعد حوالي العقد من الثورة معارك حرية الإعلام مازالت متواصلة والمخاطر محدقة ورغبات وضع اليد من السلطة او من لوبيات المال والسياسة قائمة ..ولكن يبقى أملنا في الجسم الأوسع لهذه المهنة النبيلة لفرض أخلاقيات المهنة على كل وسائل الإعلام ولمربع الحرية الممتد على الجميع ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115