تونس تودّع رئيسها

تشيع اليوم تونس رئيسها إلى مثواه الأخير..
تشيعه في صورة لم يكن يتوقعها أكثر المتفائلين حماسة : خشوع وحزن وشموخ رأس واعتزاز بالبلاد وبانسيابية عمل المؤسسات فيها ..


من مفارقات الزمن أن الباجي قائد السبسي قد وحّدنا ميتا وجعل كل التونسيين والغالبية الساحقة من السياسيين يدركون أن عناصر وحدتنا اكبر بكثير من عوامل فرقتنا ،وأننا وبسرعة البرق بصدد تحويل رجل سياسي له مناصرون وخصوم وأعداء إلى أيقونة من أيقونات الانتقال الديمقراطي ..

اليوم كل التونسيين يكادون يجمعون على البصمة الاستثنائية لرجل بدأ حياته السياسية منذ أواخر عهد الاستعمار ..

لا نعتقد أن كل هذا فقط من باب المجاملات أو عملا بشعار «اذكروا موتاكم بخير» بل لأننا نتبين في هذه اللحظة البرزخية كما يقول المتصوفة الفرق بين «الأهم والمهم» بين زلات السياسة اليومية وبين ما يبقى من اثر ..

قد تكون الأخطاء هي الطاغية على مسيرة رجل عندما نحكم عليها الآن وهنا وبمقاييس التقييم اليومي لما يحدث ولكن في اللحظات البرزخية تتغير زاوية النظر وتعرض الأعمال على ميزان آخر ،ميزان يتخلص من الأعراض ليحتفظ فقط بجوهر الأشياء، وجوهر الأشياء في هذه الحالة هو أن أحد رفاق بورقيبة الشبان وأحد أهم المساهمين في بناء دولة الاستقلال وأحد معارضيه في فترات كذلك رافق مسيرة الانتقال الديمقراطي وكان أهم شخصية سياسية فيه على امتداد ثماني سنوات ونيف فمنذ بداية مارس 2011 إلى نهاية جويلية 2019 كان الباجي قائد السبسي هو الرجل الأكثر تأثيرا في كل هذه المحطات كوزير أول ثم كزعيم حزب معارض للترويكا ثم كأول رئيس منتخب مباشرة من الشعب في منافسة حادة ولكنها كانت نزيهة وشفافة وهذا ما جعل الغالبية الساحقة من الطبقة السياسية ومن ألد خصوم بل وأعداء الباجي قائد السبسي يترحمون عليه ويثنون على نضاله ويثمنون حرصه على إنجاح المسار الديمقراطي ..

نحن نعلم أن للرجل أخطاء ،وأحيانا أخطاء حادة انتقدناها وبشدة عندما كان يمارس السلطة،ولكن كل هذه الأخطاء - على أهميتها – لا تملك عناصر البقاء بعده،وحدها اللبنات التي ساهم في وضعها لترسيخ المسار الديمقراطي هي الباقية وهي التي سمحت بانتقال سريع ودستوري للسلطة في سويعات معدودات وهي التي تحفظ امن البلاد واستقرارها وخاصة وحدتها النفسية وشعور الجميع بان الانتماء لتونس هو فوق كل شيء، وأن الصراع السياسي حتى عندما يكون حادا فهو ،في أحسن أحواله،تنافس من اجل خدمة البلاد فقط لا غير ..

وتونس تشيع اليوم رئيسها وهي تعلم جيدا بأن الانتقال الديمقراطي رغم نجاحاته مازال هشا وأن عملية بنائه مازالت متواصلة وأن المخاطر المحدقة به داخليا وخارجيا جدية وأحيانا مخيفة ولكن ورغم القصر النسبي لفترة ما بعد الثورة فقد راكمنا من التجارب ما يسمح لنا جميعا بمواجهة كل هذه التحديات ..

ويبقى الدرس الأكبر من هذه اللحظة البرزخية هو استحضار عمق وحدتنا الوطنية لا في حالات الحزن فقط وفي حالات وداع رئيس البلاد بل في كل الحالات حتى تلك التي تحتد فيها الصراعات ونحن مقبلون عليها ضرورة في الانتخابات القادمة وفي غيرها من المحطات السياسية..

ما دمنا نختلف في الوطن لا عليه فنحن بخير أما لو اختلفنا على البلاد وتناحرنا وتركناها للمغامرين يعبثون بها فعندها لن تكون لنا إلا المآقي للبكاء عليها ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115