«ثقافة التنبير»

يبدو أنّ الرياضة المحبّذة اليوم لدى عدد من التونسيين هي «التنبير» وتتمثل هذه الممارسة في السخرية

اللاذعة والتهكّم الشديد وانتقاد كلّ سلوك أو هيئة أو قول أو فعل يصدر عن الشخصيات السياسية أو الفنيّة أو العامّة وغيرها من الشخصيات التي تنتمي إلى تصنيفات اجتماعية أخرى. وقد تحوّل 'التنبير' في بلادنا إلى طقس يوميّ يمارسه البعض في برامج يقدّمها أصحاب القنوات على أنّها «ترفيهية'» والحال أنّها توفّر فرصة لمحترفيها حتى ينفّسوا عن كربهم ويحجبوا جهلهم، وهي أيضا مناسبة لممارسة العنف، وهو عنف لفظيّ ومعنويّ ورمزيّ وقد ينقلب إلى عنف ماديّ. والملفت للانتباه أنّ فضاء الفايسبوك تحوّل هو أيضا إلى سوق تعرض فيها أطرف «التنبيرات» ، وساحة يتنافس فيها عتاة «التنبير» ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، الكبير والصغير، المتعلّم والأميّ، العامل، والمعطّل عن العمل،.. الكلّ ينخرط في «ماراتون التنبير» والفعل الهستيري والهذيان .

و«التنبير» بما هو ممارسة لا يكلّف صاحبه/تها شيئا باعتبار أنّه «تلقائي وبسيط» ولا يستند إلى زاد معرفيّ بل إلى سرعة البديهة، وهو تلاعب بدلالات الألفاظ، وفي حالات أخرى يعتمد على التصرّف في صور بعض الشخصيات من خلال تقنية «الفوتوشوب». ولئن نالت هذه الممارسة قبول البعض واستهجان البعض الآخر فإنّها سرعان ما انقلبت إلى عادة مركوزة تحظى بالمقبولية الاجتماعيّة. فالسياسي يقبل بالظهور في هذه البرامج التي تتخذ «التنبير» شعارا وكذا الأمر بالنسبة لمن يعتبرون أنفسهم من المثقفين، وغيرهم. وحين تتواطأ هذه الفئات مع مروّجي «ثقافة التنبير» فلا نستغرب أن يتحوّل سيء الحظّ إلى كبش فداء، وهو ما حدث من قبل للمرحوم محمّد الطالبي، واليوم مع النائبة التي اختارت أن تقاوم «رجعيّة النهضة» بفستان، والمهندس الذي عبّر عن تصوّره الخرافي لمن جرفتهما المياه أو نزلت عليه الصاعقة فأردته قتيلا.

ليس استشراء «التنبير» إلاّ علامة دالة في نظرنا ، على العجز عن مواجهة العدوّ الحقيقي: الفقر، البطالة، التخلّف، الأميّة،الجهل، وغيرها من العوامل التي كثّفت الأزمات. وحين يسيطر الإحباط والخواء والعجز عن الفعل في الواقع وتهيمن الشعبوية على الجميع إلاّ من رحم ربّك، يستبدل العدوّ الحقيقي بعدوّ أو خصم نخترعه ونحوّله إلى كبش فداء ونتصّور أننّا أفضل منه وأعلم منه وأكثر تحضّرا منه ويحقّ لنا محاكمته وجلده أمام الجميع.

ولكن حين يتمأسس هذا الفعل عبر «الجلد الإعلامي» le lynchage médiatique - وكذلك «الجلد السياسي- الإعلاميle lynchage politico-médiatique فإنّ الأمر يستدعي التأمّل والتساؤل عن النتائج المترتبة عن احتراف إهانة الآخر وإذلاله والتشهير به وإيذائه . ألسنا في طريق ترسيخ التعصّب وتجذير خطاب إعلامي يروّج للكراهية ؟ أليس الاستمتاع بجلد الآخر حجّة على كره الذات ودليلا على العطب النفسيّ وتورّم الأنا؟ أليس ترويج بعض المؤسسات الإعلامية لـ«ثقافة التنبير» بدل التنوير علامة على مقتها للفعل الثقافيّ ولكلّ المبادرات المواطنية الإيجابية وقصص النجاح وفي المقابل انخراطها في «مأدبة قولية» تحوّل الإحباط إلى صراع اجتماعي وسياسي وجيليّ؟
قديما كنّا نكتب عن الركح الاجتماعي والركح السياسي وعن الفاعلين الذين يؤدون أدوارا ونحسب أنّه ما عاد بإمكاننا استعمال هذه المفاهيم. فما يحدث يشير إلى استبدال الركح بساحة الوغى... والفاعلين بالمقاتلين... والخطاب بالسيف البتّار...والتفاعل بالقنص والجلد والقتل الاجتماعي والرمزي والسياسي، أي «Le bashing».

و مادام مبدأ التعديل الذاتي الذي تزعم المؤسسات الإعلامية أنّها تعتمده،غير مفعّل فإنّ السياق السياسي (الانتخابات) سيوفّر مناسبات كثيرة لممارسة الجلد وستكون لبعض المحسوبين على الإعلام فرصة أكبر لإبراز مؤهلاتهم. وفي ظلّ عدم بروز قوّة مقاومة لهذه الممارسات فإنّ العدوى مستمرّة وعمليات التشفّي من الآخر وجلده والاستمتاع بإيذائه متواصلة.
إنّ أخشى ما نخشاه أن يتحوّل الجلد الإعلامي و«ثقافة التنبير» وإشاعة الأخبار الكاذبة ونشر الإشاعات إلى مكوّن رئيسي في الحملات الانتخابية، وهو أمر سيهّدد لا محالة التحوّل الديمقراطي والأمان الاجتماعي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115