قراءة في المشهد السياسي التونسي

يتابع الرأي العام العالمي بانتباه شديد ما يجري في تونس فتُنقل أخبار تتصل بأزمة القطاع الصحيّ،

وأخرى حول ظاهرة استفحال الفساد، والصراع بين قطبيّ الحكم وموقع الاتحاد العامّ للشغل، وبقية الأحزاب وغيرها من المواضيع، وآخرها فستان نائبة الشعب. ويثبت الاهتمام العالمي بالأحداث التونسية أمرين: أوّلهما أنّ تونس صارت تحت بؤرة التحديق لاسيما وأنّ إدارة الانتخابات القادمة ستكون المحرار لمعرفة صمود التجربة التونسية من عدمه. وثانيهما أنّ ما يجري في الداخل لم يعد ينظر إليه على أنّه شأن يخصّ التونسيين بل صار من حقّ الجميع تناول الشؤون التونسية بالتحليل والنقد والسخرية و...

وبقطع النظر عن دوافع اهتمام وسائل الإعلام العالمية وطرق توظيف هذه الأخبار، وأساليب التلاعب والتهكّم فإنّ إدارة هذه الأزمات في سنة يراد لها أن تكون استثنائية ومفصلية في تاريخ تونس، هي مسؤولية جسيمة وعبء ملقى على الجميع وهو أمر يفترض وعيا بخطورة الانزياح عن المسار وما سيترتب عنه من نتائج غير متوقعة.

إنّ ما يسترعي الانتباه في 'المشهد' السياسي الذي ينهل من المعجم المسرحي (الركح السياسي، الدراما السياسية، الأداء، مسرحة الفعل السياسي...) وتنطبق عليه أدوات تحليل الأعمال المسرحية وجود «ثوابت» ظلّت ملازمة للنشاط السياسي منها: استمرار حالة العقم إذ تلتقي كلّ الأحزاب: الكبرى والصغرى، القديمة والحديثة النشأة في عجزها عن طرح بدائل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وكذلك في عدم توصّلها إلى إنتاج خطاب جديد ولغة سياسية ذات وقع تأثيري تجذب كلّ الفئات. هذا فضلا عن عدم القدرة على تجاوز التموقع وفق ثنائية الاستقطاب: أنا/هم.

ونذكر من بين الثوابت التي لازمت النشاط السياسي تمحور كلّ الأحزاب حول شخصيّة مركزيّة يُراد لها أن تكون كارزماتية . وهذه الطريقة في التفكير الموروثة عن التجارب السياسية السابقة تفضح عسر التخلّص من التركة الاستبدادية ، وصعوبة ترسيخ العمل الجماعيّ. فالحزب فريق عامل من أجل الدفاع عن الرؤى والتصورات والبرامج وليس جسر عبور أو مصنعا لصناعة شخصية سياسية قادرة على امتلاك السلطة الفعلية أو الرمزية.

ثمّ إنّ ما يجمع بين كلّ هذه الأحزاب أنّها لم تكرّس فكرة التداول على إدارة الحزب وكأنّها بذلك تخشى تغيير الوجوه السياسية، أي التجديد وتألف القديم بل إنّ منها من يجد أصحابه صعوبة في استبدال من امتلك شرعيّة نضالية أو تاريخية أو رمزية بآخر لا رصيد سياسي يشفع له. وهذا المشهد جعل التونسيين غير متحمّسين لمتابعة الشأن السياسي ما دامت الوجوه السياسية هي ذاتها منذ سنوات، ومادام الخطاب هو نفسه ولا تغيير وراء الأفق، بل إنّ البعض يعتبر أنّ عدم منح الفرصة لوجوه سياسية جديدة حتى تمارس الفعل السياسي هو حجّة على الاستبداد بالموقع والرأي، وهو أمارة على هيمنة الجيل القديم وانتصار الأيديولوجيا والفكر الأحادي.

ولا يمكن التغاضي عن ملمح آخر يتمثّل في وقوع كلّ الأحزاب تحت سحر الشعبوية إذ ما عاد السياسي قادرا على الإقناع وكسب الأنصار إلاّ من خلال ممارسة الشعبوية علّه بذلك يغري الجمهور الغاضب وغير القادر على التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وليس اللجوء إلى الشعبوية في تقديرنا،سوى مخرج أو حيلة لحجب الإفلاس والعقم واستبدال القدرة على تغيير الواقع ببيع الأوهام وتزييف الوعي.

غير أنّ تحوّل هذه الممارسات والرؤى إلى ثوابت لا ينبغي أن يعمي بصيرتنا فلا نلاحظ بعض التغييرات منها محاولة بعض الشخصيات القيادية التموقع في إطار فكري أو صناعة صورة «السياسي المثقف» نذكر على سبيل المثال كتابات حمّة الهمامي حول مواضيع مختلفة ذات بعد فكريّ، ومنها أيضا كتابات لطفي زيتون ومراجعات عبد الحميد الجلاصيّ وتحليلاته للوضع، ومنها أيضا بروز الجامعي قيس سعيد في ثوب «السياسي المنظّر» .

وفي انتظار ظهور شخصيات جديدة يبقى السؤال مطروحا :هل بإمكان الفاعلين الجدد تغيير المشهد بابتكار بدائل مختلفة وتحسين الأداء والخطاب وتحقيق الفاعليّة المطلوبة؟ وهل يتسنّى للوافدين الجدد بناء الثقة في السياسيين وفي الدولة والمؤسسات؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115