بعد أن أضحت، من جديد، أحد محاور الصراع السياسي: معارك الهوية في تونس

نذكر جميعا أن لجنة الحريات الفردية والمساواة كانت قد قررت في فيفري الماضي

تأجيل تقديم تقريرها إلى رئيس الدولة حتى لا يكون موضوع تجاذب حزبي في الانتخابات البلدية لماي 2018 ولكن اليوم وسواء أحببنا ذلك أم كرهناه أضحى تقرير اللجنة ملخصا في مبادرة رئيس الجمهورية حول المساواة القانونية في الارث مع ترك حرية الاختيار لكل تونسية وتونسي بأن ينصا على غير ذلك قي قائم حياتهما محورا من المحاور الأساسية في الصراع السياسي ونحن في مستهل سنة سياسية لن تنتهي إلا باجراء الانتخابات العامة، التشريعية والرئاسية، في نهايات 2019..

وسوف تعيش بلادنا من جديد احدى معارك «الهوية» كما عاشتها في فترات من تاريخها وآخرها وأهمها وأشدها ما حصل زمن الترويكا ما بين سنتي 2012 و2013.
ولكن هذا المصطلح، الهوية، الذي يٌستدعى في جلّ الحالات لمحاربة كل نفس اصلاحي ظل مصطلحا غائما يحشره كل طرف بما يريد لأهداف في أنفس يعاقبة أو يعقوبات (المقصود فقط هو جمع يعقوب)تونس.
هنالك سجال علمي حول مشروعية استعمال مفهوم هوية للدلالة على جماعة بشرية ما.

فالهوية مصطلح فلسفي عمدت آلية العلوم الانسانية كعلم النفس مثلا للتدليل على وعي الفرد بذاته وعلى ديمومة هذا الوعي ووحدته رغم تغيّر المحيط وتنوع تجارب الفرد وتطور مداركه ومعارفه وأحاسيسه فهوية الفرد هي الخيط الرابط والموحد لكل هذا التنوع شبه اللامتناهي في حياته وهو الذي يسمح له بأن يقول أنا هو أنا الأمس واليوم وغدا وأنا غير الآخر مغايرة كلية رغم ما يمكن لي نسجه مع الآخر من روابط مادية ومعنوية وعاطفية .. وبالتالي رفضت عدة مدارس علمية اطلاق هذا المفهوم على الجماعات البشرية، لأن فرادتها غير فرادة. الأفراد ولأن غيريتها ليست بمثل هذه الحدية، ففي جماعة بشرية مهما صغرت هويات فردية متعددة والجامع بينها ماديا ومعنويا لا يمكن أن يشكل هوية بالمعنى التقني الفلسفي للكلمة إذ يتطور هذا الجامع المشترك ويتأثر بمتغيرات الزمان والمكان بشكل يستحيل معه القول بأن هوية شعب ما بقيت هي هي بعد جيل واحد من الزمن.

فالهوية عندما تطلق على الشعوب والثقافات تفقد من صرامتها المفهومية وتصبح فقط مفهوما اجرائيا تقريبيا لفهم الوحدة الكامنة في كل مجموعة بشرية في الآن والهنا أي في لحظة تاريخية وفي مكان محددين، وحدة تتغير بدورها كلما تغير الآن والهنا..
نقول كل هذا حتى ندرك أن الحديث عن هوية شعب أو أمة أو ثقافة لا يعني بالمرة أننا نتكلم عن ماهيات ثابتة بل عن جٌمّاع تجربة بشرية مشتركة فيها الوحدة والتنوع في ذات الوقت وفيها خاصة تطور الوحدة وتطور تمظهراتها بحكم التطور التاريخي لهذه الجماعة البشرية..

ولنعد بعد هذا «المنعرج الدائري الكبير» على حسب عبارة فيلسوف اليونان أفلاطون لنقول بأن لمفهوم الهوية ذاته تاريخا وأنه حديث جدا في بلادنا على سبيل المثال وأنه ليس بالمرة من انتاج الاسلاميين أو العروبيين بل بواكيره الأساسية كانت في الحركة الوطنية التي كانت تستعمل زمن الاستعمار مفهوم «الشخصية» للدلالة على أن هذه البلاد ليست كمّا من الأفراد لا جامع بينهم بل لها تاريخ وحضارة وثقافة وتجربة ممتدة في الزمن تكونت فيها وبها معالم «شخصية» وطنية يريد الاستعمار طمسها لكي يقضي على وجود أمة ويلحقها بالحضارة الفرنسية قلبا وقالبا..

فالشخصية التونسية أو الهوية التونسية وفق استعمالنا اليوم هو موقف فكري وسياسي للدفاع ضدّ محاولة المسخ الثقافي للاستعمار الفرنسي ثم تحول هذا الموقف بعد الاستقلال ليصبح الطريق التونسية الخاصة للولوج الى الحداثة.

في المقابل لم تكن تستعمل حركات الاسلام السياسي مطلقا مفهوم «الشخصية الوطنية» أو حتى «الهوية العربية الاسلامية» وذلك لسبب فلسفي واضح فالشخصية أو الهوية هي نتاج التاريخ وتجربة البشر وما رسخ فيهم من أفكار وتصورات وممارسات وما يٌعبر عنه أيضا بالمخيال الجماعي ( L'imaginaire collectif) بينما حلم الاسلام السياسي هو اعادة الناس أفرادا ونظما ومجتمعات الى حالة من «النقاوة» العقائدية الخارجة عن الزمان والمكان والمحفوظة بين رفوف بعض الكتب، بل كان الاسلام السياسي ضد الهوية الوطنية أو القومية باعتبارهما انحرافات عن العقيدة الصحيحة ونوعا من أنواع الاستلاب الحضاري.

ان لجوء التيارات الاسلاموية الى مفهوم «الهوية العربية الاسلامية» منذ ثمانينات القرن الماضي كان دالا على هزيمة فكرية وعجز عن فرض المصطلحات الاسلاموية مثل «العقيدة» و«الاسلام الصحيح» ومنذ تلك الفترة حصلت المغالطة الكبرى، فالاسلاميون عندما يستعملون مفهوم «الهوية العربية الاسلامية» لا يعنون به التجربة التاريخية للعرب وللمسلمين ولا يقصدون البتة ذلك التراث البشري الذي انتج تصورا خاصا للانسان وللحياة تعبر عنه الأعراف والتقاليد والعادات والأدب والفكر والفنون بل يقصدون فقط ما يعتبرونه الثوابت الدينية السرمدية غير المتأثرة بالزمان والمكان، انهم يقصدون به العقيدة والشريعة كما يتمثلانها وفق مفهوم «المعلوم من الدين بالضرورة» وما لا يجوز الاجتهاد فيه وما يبقى خالدا الى يوم القيامة لا يطاله فعل البشر الا تفسيرا وتأقلما فقط لا غير..

أي أنهم يفرغون مفهوم الهوية من جوهره باعتباره تعبيرا معقدا ومتنوعا على تجربة تاريخية وحضارية لشعب من الشعوب.

لا جدال بأن لكل شعب هوية بهذا المفهوم العام أي تراث مادي ولا مادي وتجربة تاريخية وثقافة وحضارة وأن هذه الهوية كائن تاريخي متحرك ومتطور ينمو بالتلاقح وباكراهات السياقات التاريخية باجتهاد وجهد كل الأجيال المتعاقبة والمشاكل المستحدثة وأن في كل هوية خيوطا جامعة وانتقالات نوعية تعيد انتاج التمثل التاريخي وفق حاجيات ومقتضيات الآن.
ففي الهوية العربية الاسلامية لتونس لا وجود لنصوص قطعية بل فقط لتجربة بشرية فالنصوص القطعية و«المعلوم من الدين بالضرورة» وغيرها من المفاهيم تنتمي لسجل آخر يمكن أن نطلق عليه بالتصورات الدينية لفريق من التونسيين، وهي ولا شك تتدخل بصفتها تلك لتؤثر وتتأثر بالهوية العامة الجامعة لعموم التونسيين.

لا شك أن سؤال الهوية مهم لكل شعب، فشعب لا يعرف من هو ومن أين أتى لا يستطيع بناء مستقبل مشترك، ولكن سؤال الهوية ليس هو سؤال الدين كعقيدة، فالأول سؤال اجتماعي جماعي والثاني سؤال فلسفي ميتافيزيقي فردي.. فالدين كعقيدة ماورائية ليس عنصرا في هوية أي شعب، وحده الدين كتديّن أم كجملة من القيم والممارسات والسلوكيات والتقاليد هو الذي يدخل في تكوين الهوية الجماعية.. وكل محاولة لاستبدال التديّن بالدين / العقيدة هو محاولة ظاهرة أو خفية لحمل الناس على رأي عقائدي محدد، وكل سعي من هذا القبيل هو عنف معنوي وأحيانا مادي على الأفراد والمجتمع.

نحن نحتاج الى حوار عميق حول هويتنا الفعلية ولكن مستقبلنا لا يتأسس فقط على هويتنا الراهنة والا كان استردادا لها وتكرارا مملا للماضي ففي كل بناء مستقبل تواصل للماضي ولكن في شكل ابتكار جديد له.
مرحبا بمعركة الهوية حتى نحدد في النهاية في أي اتجاه نريد السير معا أما أشباه معارك الهوية التي نصطف فيها عقائديا فذلك مؤذن بالحرب والخراب معا..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115