Print this page

2019 ما بعد التوريث الديمقراطي بدأ الآن

يختلط اليوم في تونس الحابل بالنابل كما يقال وغلّب منطق الاصطفاف الأعمى على منطق التقدير العقلاني لمصلحة البلاد والعباد ،ولا نعتقد

أن الأمور ستتحسن إذ كلّما اقتربنا من الانتخابات العامة والتشريعية والرئاسية في أواخر 2019 كثرت الحسابات السياسوية و احتد الاصطفاف وكثرت اللكمات تحت «السنتورة» ..
لاشك أن الحماسة للمواعيد الانتخابية الأساسية مسألة عادية في كل الديمقراطيات والصراع السياسي لا ينتمي لخطب المجاملات الديبلوماسية فهو شرس وعنيف ولا يقدر عليه إلا من كانت له رباطة جاش القتلة المحترفين ولكن حتى في عالم الشراسة هذه ،شراسة السلطة ، هنالك قواعد دنيا وبقية باقية من القيم واحترامها ضروري للسياسي لا فقط من باب مكارم الأخلاق ولكن من باب أن حبل الكذب والاحتيال والخديعة قصير وان الذي ينوي احتراف السياسة عليه بالمحافظة على الحدّ الأدنى من الصدق والمصداقية ..
يمكن أن نقول الآن بأن ما بقي من وهم التوريث الديمقراطي قد قبر يوم السبت الماضي عندما اضطر نجل رئيس الجمهورية مكرها إلى تغيير إستراتيجيته والإذعان لمشيئة غريمه رئيس الحكومة ..
صحيح أن الصراع في السياسة لا يخضع دوما لقوانين الصراع في العالم الحيواني فعند إخواننا في الحياة معركة وحيدة تفصل الصراع نهائيا ولكن عالم البشر ،وخاصة عندنا،يتميز بثقافة «التمردية» وأحيانا لا يعترف احدهم بهزيمته ما دام فيه عرق ينبض،ولكن خسارة المدير التنفيذي لنصف كتلة حزبه بصفة نخالها دائمة إن لم تفاقمها الأسابيع القادمة يجعله خارج السباق الموضوعي وإن كان سيبذل قصارى الجهد لتوجيه ما بقي له من سهام حافية ..
وعندما نعلم أن أحد أهم مؤيديه في الكتلة والحزب للإطاحة بصاحب القصبة ونقصد به السيد رضا شرف الدين قد كان أعلن في اليوم الموالي
لعملية منح الثقة لوزير الداخلية المكلف بأنه قد يترشح لرئاسة الجمهورية أو على الأقل لرئاسة الحكومة ، نفهم جيدا أن لا أحد - باستثناء ربّما العائلة المقربة – مازال يؤمن بحظوظ ولو دنيا للتوريث الديمقراطي ..
ولكن كل هذا لا يعني أن المنتصر يوم السبت الماضي يوسف الشاهد سيكون هو المنتصر في نهاية السباق .. فسباق 2019 قد بدأ فعلا ومن الباكر جدا أن نقدر الحظوظ الجدية لكل المتنافسين والذين يعدون اليوم بالعشرات على اقل تقدير بل يمكن أن نقول بأننا سنشاهد منافسة مفتوحة والى ابعد حد وان من يتصدر اليوم أو غدا نوايا التصويت في عمليات سبر الآراء ليس هو بالضرورة الفائز يوم الامتحان الفعلي يوم ينطق الصندوق بما حوى ..
المعركة الجارية حاليا داخل نداء تونس مهمة ولاشك ولكنها قد تكون معركة جانبية في أواخر السباق وقد يخسر كل المتراهنين داخل هذا الحزب الفائز بالانتخابات العامة في 2014 كل حظوظهم بحكم الاقتتال الداخلي الذي سيشهده النداء خلال الأسابيع والأشهر القادمة إذ لا وجود لقيادة طبيعية ولا لآليات ديمقراطية شفافة للفرز ولا نرى كيف يمكن لحزب انبنى على فرض هيمنة شخص واحد على امتداد جل ردهات حياته أن يتحول بقدرة قادر إلى حزب ذي قواعد تسيير ديمقراطية تحظى بقبول الجميع داخله ..
رغم أن الجميع يعلم منذ ثلاث سنوات ونصف أن الانتخابات العامة ستجرى في أواخر سنة 2019 إلا أن العديدين لم يبدؤوا بعد في الاستعداد الجدي لهذه المحطة المفصلية وقد اتضح هذا جليا في الانتخابات البلدية في ماي الماضي ولكن وضوحه الأهم والأبرز هو في الحضور القوي لصراع الأشخاص وفي الغياب شبه الكلي – إلى حد الآن – لحوار الأفكار ..
يخطئ من يعتقد انه بإمكانه ربح انتخابات على ما يعتبره المحصلة الايجابية لحكمه وهذا الكلام صالح ليوسف الشاهد وكذلك للمهدي جمعة بدءا لأنه لا وجود لاتفاق على تقييم موضوعي لحصيلة حكم كليهما والمهم ليس في هذا أرحم أو ذاك بل بما ينطبع في أذهان التونسيين .. وبالنسبة للتونسيين كل حكومات ما بعد الثورة فاشلة .. قد يكون في هذا الحكم بعض القسوة لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار الصعوبات الظرفية التي اعترضت كل حكومة ولا كذلك الصعوبات الموضوعية التي تجعل من حكم تونس اليوم مسألة معقدة للغاية في ظل تحكم القبائل واللوبيات من كل حدب وصوب في أجزاء متناثرة ولكنها متعاظمة من السلطة والنفوذ
ولكن كل من حكم أو ساهم في الحكم هو مسؤول قطعا عن هذه الحصيلة كما أن كل من يطمح الى الحكم دون أن يمارسه فعليا هو مسؤول عن تقديم أفكار وبرامج وآليات لتطوير وتحسين أوضاع البلاد..
الخطأ الأكبر في 2019 هو تقديم الوعود اللاعقلانية وعدم الإجابة عن الأسئلة الدقيقة : كيف سنصلح الدولة وحوكمتها وترشيد إنفاقها والترفيع من فاعليتها ؟ ..كيف سندفع بالنمو وكيف سنزيد في خلق الثروة وكيف سنرتقي باقتصادنا في سلم القيم ؟
كيف نخلق شروط الرفاهية لكل أبناء وبنات تونس دون السقوط في مخاطر أوهام الدولة الريعية التي توزع على أهاليها ما لا تملك هي وما لم ينتجه مواطنوها ؟
ما هو الإصلاح التربوي العملي المنشود وكيف سنصلح منظومة التكوين والتشغيل والرفع من كفاءات كل القادمين على سوق الشغل ؟
الإشكال في بلادنا يكمن في هذا النظام الهجين الذي اخترناه وفي اقتراب الموعدين الانتخابيين الرئيسيين ففي 2014 لم يفصل إلا شهر واحد بين التشريعية والدور الأول للرئاسية فلم يحصل نقاش جدي حول مشاكل البلاد لا في التشريعية ولا في الرئاسية أيضا لذلك سيكون من الضروري أن نبدأ نقاشا واسعا وفي العمق منذ بداية سنة 2019 والا تقتصر الساحة السياسية والإعلامية كذلك على صراع الأشخاص واختيار القائمات ومن سيرأس هذه ومن سيرأس تلك ..
كل المعطيات تشير إلى أن الحكومة الحالية ستستقيل في أواخر هذه السنة (أكتوبر أو ديسمبر على الأرجح) وأن حكومة تكنوقراط ستعوضها وستنحصر عهدتها في حسن إعداد المواعيد الانتخابية فالمرغوب هو بداية صراع الأفكار والبرامج والتصورات منذ جانفي القادم وأن نضع كل مشاكلنا نصب أعيننا وأن تتنافس الأحزاب والشخصيات حول أفضل سبل الإنقاذ أولا والإقلاع ثانيا وان يكون اختيار التونسي ،في الأخير ، على الأفكار والبرامج لا على الهويات فقط..
لقد أضعنا هذه العهدة الانتخابية رغم الجهود المبذولة هنا وهناك فلا اقل من الاستعداد الجدي منذ الآن حتى لا نضيع العهدة القادمة ..

المشاركة في هذا المقال