Print this page

خرج من حياده المفترض وساند ابنه فاقدا بذلك دوره التحكيمي: الباجي قائد السبسي من هيبة الدولة إلى الولاء للعائلة..

الحوار المثير للجدل الذي أدلى به رئيس الجمهورية لقناة نسمة صباح يوم السبت 14 جويلية وتم بثه مساء الأحد 15 جويلية وبغض النظر عما طالته

يد التركيب من بعض التوجيه وعن الوضعية القانونية الحالية للقناة الباثة فإن تبنيه من قبل رئاسة الجمهورية يغنينا عن نقاش السياق ويجعل منه مادة سياسية هامة لفهم مجريات الأمور .
في هذا الحوار الذي كان يتمناه البعض ويخشاه البعض الآخر اتضحت الصورة بصفة نهائية (؟) : رئيس الدولة ضد خصوم ابنه في الحزب الذي أسسه وفي الساحة السياسية بصفة أعم. إنه الاصطفاف الكلي والنهائي على خط العائلة ، اصطفاف يجعل من الباجي قائد السبسي أحد أطراف الخصومة السياسية ، بل طرفها الأبرز ويفقده بالتالي كل إمكانية للعب دور تحكيمي ولكي يكون مرجعا لمختلف الفرقاء ..

في الظاهر حصرت الأزمة السياسية كلها في نقطة وحيدة :
بقاء حكومة الشاهد من عدمه بالاعتماد على تقييم عام لأدائها .. وهنا لا إشكال في الظاهر فتقييم أداء الحكومة ليس بدعة والمطالبة برحيلها ليس أمرا استثنائيا ونحن نجد في المواقف التي عبرت عنها المنظمات الوطنية وبعض الأحزاب السياسية المطالبة برحيل هذه الحكومة وجاهة لا تنكر فالأداء لم يرتق إلى المطلوب والنتائج الاقتصادية والاجتماعية رغم التحسن الطفيف في بداية هذه السنة مازالت دون المنتظر بكثير ، ويبقى النقاش الجدي فقط حول جدوى حكومة ثالثة في نفس هذه العهدة لن يتجاوز عمرها سنة وأشهر معدودات والتقييم العقلاني يقوم على موازنة ما سنربحه من تغيير جذري للفريق وما سنسخره من فترة انتظار وتأقلم مع العلم بأننا لا يمكننا التأكد بصفة قبلية من التفوق الواضح للفريق القادم على هذا الفريق ..
ولكن مطالبة حافظ قائد السبسي والآن والده والأطراف العائلية المصطفة وراءهما واللوبيات الداعمة لهما لها منطق مختلف : إنها محاولة معاقبة يوسف الشاهد لأنه تجرأ على ملامسة بعض المصالح بدءا بحملة الإيقافات التي شملت أصدقاء جد مقربين من حافظ قائد السبسي في السنة الفارطة وعدم استجابة صاحب القصبة لكل طلبات التعيين في مختلف مفاصل الدولة ، والخوف كلّ الخوف ، عند هذه الأطراف مجتمعة هو لو تمكن يوسف الشاهد من السلطة الرمزية الكبرى ، أي رئاسة الجمهورية في 2019 ، أن يصبح هذا الفريق العائلي ومن يصطف وراءه مهددا بمستقبل مظلم ..
فنحن اذن أمام مجموعتين مختلفتين جذريا من عوامل الرغبة في رحيل هذه الحكومة : عوامل موضوعية تتعلق بأدائها وسياساتها العامة وبالخصال الفردية والجماعية للفريق الحاكم وعوامل ذاتية مرتبطة بالخوف من المحاسبة وبالرغبة المرضية في تحصين الذات عبر مسار خطير وهو « التوريث الديمقراطي»
إن الإشكال الرئيسي في البلاد اليوم هو تداخل هذين المسارين بحكم وحدة الهدف العام .. وما يخيف فعلا هو التعاضد الموضوعي والذاتي أيضا لهذين المسارين لأن ذلك يفسد كل شيء ويجعل من خصوم الحكومة لاعتبارات سياسية واجتماعية وكأنهم فروع لنهر يتجاوزهم ويحتويهم بحكم حسابات سياسوية خاطئة قائمة على مبدإ : عدو عدوي هو صديقي في حين أن عدو عدوك قد يكون ضرره اكبر بكثير من الأضرار التي قد تصلك من عدوك الحالي..

لقد كانت أمام رئيس الجمهورية خيارات عدة قبل الخروج العلني يوم الأحد. لقد كان بإمكانه دعوة كل الأطراف لهدنة بسنة مقابل تنازلات متبادلة ، أو أن يطلب من طرفي الصراع الندائي : حافظ قائد السبسي ويوسف الشاهد الابتعاد عن النداء أو حتى عن السياسة أو أن يكبح جماح طموحات نجله ويفرض عليه وعلى أفراد عائلته المساندين له الابتعاد كليا عن النشاط السياسي ما دام هو في سدة الحكم .. كانت هذه الخيارات وغيرها متاحة ، نظريا ، لرئيس الدولة ولكن يبدو انه لم يعد قادرا على الخيارات الصعبة أي على مواجهة نهم نجله ومن يقف وراءه فسعى لاستغلال تداخل المسارين اللذين تحدثنا عنهما ليطالب الشاهد بصفة تكاد تكون واضحة بالرحيل. وما يؤكد أن الأسباب العميقة للموقف الرئاسي تتقاطع فقط مع الدواعي العائلية هو موقفه من الأزمة الحالية داخل نداء تونس إذ اعتبر أن اجتماع الهيئة السياسية المناهضة لنجله إنما هو مناورة خبيثة دبرت بليل من «شخص» تشير كل المؤشرات الى انه صاحب القصبة ..

اليوم تم خلط كل الأوراق ولم يعد التونسيون يثقون في أي شيء ، تقريبا، فعندما يتم التخويف من اصطفاف الشاهد وراء حركة النهضة هل نحن أمام خطر فعلي حقيقي أم رغبة محمومة للتخلص من خصم سياسي لا غير واتهامه بما يعتقد أنه الاتهام الأخطر؟!

وفي الأثناء تتعقد الأزمة السياسية في البلاد ويخرج رئيس الدولة اضعف ممّا كان ويفقد جزءا كبيرا من قدرته على التأثير على الأحداث وعلى إيجاد المناطق الرمادية بين مختلف الفرقاء الاجتماعيين والسياسيين . فأزمة الحكم اليوم ليست فقط أزمة الحكومة بل أزمة المنظومة بأكملها بدءا من رئاسة الجمهورية وصولا إلى البرلمان ومرورا بالقصبة .. أزمة مست أيضا الهيئات الدستورية وهي بصدد إرباك ما بقي سليما نسبيا في مختلف منظوماتنا الاقتصادية والاجتماعية .
لقد قال رئيس الجمهورية بأن الوضع الحالي لا يمكنه الاستمرار وهذا صحيح ولكن لِـمَ لا يقوم هو شخصيا بمبادرة جدية لحلحلة الأمور ؟

لِـمَ يرفض استعمال الفصل 99 من الدستور والذي يخول له طلب تجديد الثقة في الحكومة من قبل مجلس نواب الشعب ؟ لِـمَ يريد أن يكون المخرج فقط بيد رئيس الحكومة ويتخلى هو عن دوره الدستوري؟
ما دام رئيس الدولة قد خرج عن صمته وتموقع في هذا الصراع السياسي فليواصل إلى النهاية وليذهب أمام مجلس نواب الشعب ويبرر له ولبقية المواطنين الدواعي التي دفعته إلى طلب تجديد الثقة في الحكومة وليستمعْ النواب إلى موقف رئيس الحكومة مباشرة ثم ليستمعْ رأسا السلطة التنفيذية لرأي النواب وفق مقتضيات الفصل 151 من النظام الداخلي للبرلمان ..
أسوا الأمور أن يقف المرء في منتصف الطريق ..
اليوم قد اختار الباجي قائد السبسي طريقه فليمض فيه إلى النهاية وإن أبى ذلك فليعط هو المثل وليقدم استقالته وليعد الكلمة للشعب عسى الصندوق يكون هو المنقذ من هذا الانسداد المهدد للبلاد والعباد ..

المشاركة في هذا المقال