Print this page

في خضم غوغاء «السياسة»: أين مصلحة الوطن ؟

صراع البقاء والمواقع في نداء تونس، وتثبيت التموقع لحزب النهضة ،

و معركة تثبيت القدم والتواجد لأحزاب الطابور الثالث، و التفرج و الاستمتاع و المؤانسة لحوالي مائتي حزب المتبقية، و حالات الترقب والتململ والغليان، لبعض النخب والمنظمات وفئات واسعة من الشعب : تلك هي سمات أوضاع المتحكمين في مصير تونس المستقبل.
في غمار كل هذا ، تترنّح سفينة الحكومة تتقاذفها موجات عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية و هشاشة الحلول التلفيقية الّتي يقع اللّجوء إليها بين الفينة و الأخرى بالإيهام بالتوصل إلى حلول ، و الغليان الاجتماعي والضغط المتواصل لتغييرها مع تواصل مخاطر و أطماع قوى التشدّد والإرهاب .
لا شيء عن مصلحة الوطن قبل مصلحة الأحزاب كما يقال بالفرنسية La patrie avant les Partis ، قالها و أعادها أكثر من سياسي و من بينهم الأستاذ محمّد الباجي قائد السبسي مباشرة بعد حصوله على تأشيرة حزب نداء تونس في 2012 ،و كان ذلك رغم أنه كان في فترة تعبئة لحشد أنصار لحزب النداء الّذي بني في رحم أمل بناء حزب واسع يجمع جميع الأطياف القائلة بمبادئ الجمهورية المدنية والعلمانية.

لا شيء عن مصلحة الوطن في الاستقرار والرخاء و الإنماء و الحفاظ على المكاسب الاجتماعية ودعمها في كنف قيم المساواة والعدالة و التقدّم ، الّتي أصبحت مهدّدة رغم المشاريع المعلن عنها في إطار تثبيت المساواة و الحريات الفردية ، و الّتي تمّ استقبالها بفتور حتى من دعاة تبنيها و دعمها.
لا شيء عن مصلحة الوطن في تقديم تصور إقتصادي يخرج البلاد من الأزمة الخانقة وفي خطط تنموية رائدة وخلاّقة تعيد الثقة لقوى الإنتاج و تحفّز الإنتاجية ،و في إرساء حوار بناء حول سبل النهوض بالبلاد قبل التفكير في سبل الوصول إلى مراكز النفوذ فيها
لا شيء عن مصلحة الوطن في تحقيق وتوجه توحيد الجهود للدعم الحقيقي و الفعلي للقوات الساهرة على حماية الوطن و الدولة بمختلف تصنيفاتها ، لدحر قوى الإرهاب ،بدل بث حملات التشكيك و الترهيب و افتعال المعارك الجانبية لصرف النظر عن المخاطر الحقيقية الّتي تترصّد البلاد .

إنّ قوى الشد إلى الوراء سواء كانت مهيكلة داخل حزب النهضة أو كانت خارجه ، هي التّي تواصل اكتساح مختلف مفاصل المجتمع ، لغاية فئوية و مصلحية تهم مشروعها المجتمعي فقط، ولم يستخلص خصومها الموضوعيون الدروس من الانتخابات البلدية و من الخطب المهدّدة والمتبجحة بتحجّرها و من الوقوف الصريح ضد توجهات التحديث التّي تهم تقدّم البلاد ، بل عاد البعض إلى استعمال عبارات العلمانية والحداثة و التقدمية كشتيمة أو تهمة ، للتحقير و للتقليل من شأن الأشخاص و الحط من اعتبارهم . ولا يسعون بذلك إلى منع تحقيق مكاسب جديدة فقط، بل يريدون التراجع عن المكاسب، في محاولة لنسف ما بناه بورقيبة بتواطؤ أو تخاذل ممن يعتبرون أنفسهم وارثين لتوجهاته وروادا لدعم فكره.

لن نضيف جديدا إذا قلنا أن تضخم «الأنا» لدى أغلبية من النخب المتبنية للفعل السياسي في أوساط القوى الديمقراطية ، وراء التشرذم والانقسامات و كذلك وراء الانكماش والانسحاب من ساحة العمل السياسي ، و هو ما يشكل حاجزا كبيرا لبناء جبهة واسعة تدافع عن الدولة المدنية و قيم الجمهورية و الحداثة . و لكن ما يثير الاستغراب أن الواقفين على هرم السلطة و الّذين سعوا إلى أن يسجل التاريخ لهم إنقاذ الدولة المدنية الديمقراطية والعلمانية ، بدوا مستكينين، غير عابئين بالمخاطر الّتي تهددّ المشروع الذي حلمت به أغلبية فئات الشعب إبان جانفي 2011 و الّذي ترجمه الدستور الجديد في مبادئ دستورية لدولة عصرية و ديمقراطية.

في حين أن «الطفولية السياسية» تتصدّر الأحداث و تمتلك الجرأة على اكتساح الساحة السياسية ، و لو كانت بلا ماضي سياسي أو كان ماضيها أسود ، لذلك نرى الفاعلين فيها يستنبطون الحلول للإبقاء على الرداءة ، ويحذقون التنطّع والتلوّن ليبقوا في مقدّمة الأحداث.

هذه «الطفولية السياسية» كانت تنسب لجزء من اليسار في فئة الشباب ،و حصدت البلاد نتائج منهجيتها «النضالية» الّتي خسرت فيها كل المواقع الّتي كانت تمسكها ، هي نفسها الّتي نشهد تحركاتها و لكن دون أن تكون منحصرة في فئة معيّنة ، بل أصبحت «لعبة شعبية» تمارس على كل المستويات وفي مختلف الفئات والأعمار.
نعود لنقول، في كل هذا لا شيء ،في مصلحة الوطن، الّذي بقي ينتظر صحوة الغيورين عليه لتجاوز المصاعب و المحن.

المشاركة في هذا المقال