Print this page

المنبر المفتوح حول تقرير لجنة الحريات الفردية و المساواة: الصمت الممنوع، والصوت المسموع ...

بعد نشر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة المحدثة بموجب

الأمر الرئاسي عدد 111 بتاريخ 13 أوت 2017، لما تمتّت بلورته من تصوّر للإصلاحات «الّتي يحتاج إليها النظام القانوني التونسي في مجالي الحريات والمساواة»، لن تجد الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني و الجمعيات الحقوقية والنخب في المجالين الحقوقي والقانوني ، أي مبرّر للصمت وعدم التعبير عن موقفها و إبلاغ صوتها بخصوص ما تمّت

صياغته من توصيات لإجراء إصلاحات مرتبطة بالحريات الفردية والمساواة، استنادا إلى مقتضيات دستور 27 جانفي 2014 والمعايير الدولية لحقوق الإنسان والتوجهات المعاصرة في هذا المجال ، كما جاء صلب التقرير .

فالأمر يهم كل المجتمع و كل الأطراف الفاعلة فيه ، لتعلّقه بمحاور أساسية في حرية الأفراد والمساواة فيما بينهم في المنظومة القانونية العامّة، للملاءمة مع ما أقرّه الدستور من أحكام تمّ التأسيس لها لضمان حريات وحقوق كل التونسيين دون أي تمييز ، وهو توجّه طلائعي - في سياقه الاجتماعي والزمني- جاء في انسجام مع السبق الّذي سجلته تونس في محيطها الجغرافي والحضاري سنة 1956 وما بعدها، عندما تم وضع مجلة الأحوال الشخصية وعدّة تشريعات أخرى متصلة بالحريات و المساواة وقيم التقدّم.

ولعلّ صلة التقرير بأهم محاورا لحياة الاجتماعية دفع معارضيه إلى التحرّك و إعلانهم صراحة لرفض مضامينه جملة من حيث المبدأ بدعوى مخالفته للشريعة، و ذلك رغم المجهود الاستباقي في شرح الأسباب الّذي بذلته اللّجنة، لبيان عدم التضارب مع مقاصد الإسلام ، وهو منحى ، نعتبره ،غير لازم ، باعتبار أن كنه توجهات التقرير متصّل بالمنظومة القانونية الصرفة المراد إصلاحها ، دون الحاجة للتبريرات الفقهية و الردود المسبقة على ردود الفعل المنتظرة .

فرغم المجهود المبذول لبيان عدم تضارب توجهات التقرير مع التعاليم الإسلامية ،فقد ارتفع صوت المعارضين ،و هو حق لا يُنكر عليهم ، ولكن التصريح بأسباب الرفض ،يؤكّد أن جبهة الرفض الّتي بدأت تتشكّل تؤسس مواقفها على الرفض المبدئي القاطع للمشروع ككل بالاعتماد على الرد على مرتكزات التوجهات والقراءات الفقهية الّتي جاءت فيها.
هذا الموقف كان منتظرا ، ولمسنا بوادره منذ الإعلان عن تشكيل لجنة الحريات الفردية والمساواة، و قد عبّر عنه البعض صراحة ، وفي حين سجل جانب آخر رفضه أو عدم تحمّسه بالغياب و الصمت،و عدم القيام بأي فعل مؤيّد .

لكن الملفت للانتباه، أن من بين ملازمي الصمت جمعيات و هيئات تعدّ معنية بالدّفاع عن الحقوق والحريات و المساواة، بل هي الّتي من المفروض أن تكون في مقدّمة المساهمين في صياغة التقرير مثل ممثلي المحامين والقضاة والجمعيات القانونية، والحال أنهم من المباشرين العارفين بتداعيات المنظومة القانونية المنطبقة ، والمستشرفين لآفاق تقدّمها وتطورها.
كذلك يكون الأمر بالنسبة للأحزاب السياسية المتبنية لقيم الدولة المدنية الدّاعمة لتوجهات حماية الحريات الفردية والمساواة ، الّتي يشكّل موقفها إعلانا عن جانب هام من برامجها السياسية المستقبلية بخصوص محور الحريات الفردية في بعديه الحقوقي و الاجتماعي، و بشكّل تواصلا لما أسهمت به عند المصادقة على الدستور الجديد، الّذي تُعدّ أحكامه التزاما جماعيا لما تمّ إقراره لطبيعة الآثار المترتّبة عن أي نص تشريعي كنص عام و مجرّد.

كل هؤلاء مدعوون للتعريف بموقفهم من هذا التقرير بصورة واضحة باعتباره، يتناول بصفة شاملة و مبسطّة لأهم الجوانب الّتي تخصّ حياة الأفراد و نماذج من القضايا الاجتماعية والمسائل الحقوقية ذات الصلة بالحريات و الحقوق الفردية مثل الإعدام في الجرائم الّتي لا تتعلّق بالقتل ، والانتحار والموت الرحيم والتعذيب والسلامة البدنية و المعاملات القاسية واللاّإنسانية والمهينة، والحق في الأمان والحرية والنصوص العديدة المتصلة بهذا الجانب مثل قرينة البراءة والإيقاف التحفظي والاحتفاظ ، وحالة الطوارئ والإقامة الجبرية والمس من المقدسات والتكفير والمساواة بين المرأة والرجل في الأحوال الأسرية وسرية الحياة الخاصّة أو العائلية وغيرها من المسائل الّتي تقتضي الإطلاع على التقرير والتمعن في ما احتواه من مادّة ثرية للنقاش و إبداء الرأي الرصين في مقترحات تشكل تحوّلا على غاية كبيرة من الأهمية.

وفضلا على ذلك فإن نشر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة يعدّ في حد ذاته حدثا هاما لأنّه يلقي الضوء على العديد من المسائل الّتي لا يتاح للعموم و حتى الخواص الإطلاع عليها مجمّعة ومفصّلة . و هو هام أيضا لأنه يشكّل سابقة يجب النسج على منوالها كلّما تعلّق الأمر ببسط مسائل تحتاج إلى الاستشارة الواسعة ، بل حتى في أبسط المسائل الّتي ستكون محل تشريع جديد ، لتشمل الفائدة عامة الناس وحتى نواب الشعب المدعوين دائما للتصويت على نصوص عارفين بمخرجاتها وأسسها.

و من المحاذير، إصدار الأحكام المسبقة، وبناء المواقف على ما يُنقل و يُسمع ، و الانسياق وراء حملات تستغل العبارات أو الأحكام «الصّادمة» للتلاعب بالحس العام ، و مساعي الحط من قيمة التصورات والمقترحات و المغالطة ، باختزال المساواة في الإرث أو بعض العناوين الأخرى الّتي يُروجُ لها البعض و كأنها مشاريع نصوص قانونية تامّة الموجبات ،أو الترويج لقراءات خاطئة لما تم استعراضه من نصوص لاتفاقيات و تشريعات هيئات إقليمية و دولية سبق أن صادقت تونس على أغلبها.

إن تحرّك «جبهة الرفض» يجب أن يقابله تحرّك الأطراف الدّاعمة للتصورات الّتي تضمّنها التقرير.وهنا يكمن دور الجمعيات المهنية و الحقوقية ذات الصلة بالقوانين والحريات والمساواة ، وكذلك الجامعات ، والكفاءات القانونية ، للمساهمة في بلورة مضمون هذا التقرير وفتح المنابر حوله، لإبداء الرأي والإثراء ولتقديم مقترحات يمكن أن تشكل إضافة، يستنير بها محرّرو المشروع الرئاسي المنتظر والّذي كان منطلقه دعوة لجنة الحريات لإنجازه . فالصمت إذن ممنوع ، و الرأي الحر مسموع، للإثراء و لصياغة أفضل مشروع ...

المشاركة في هذا المقال