اليوم ينشر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة: ثورة ثقافية واجتماعية وتشريعية

ينشر اليوم تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة على الموقع الرسمي للجنة بعد أن تم

تقديمه إلى رئيس الجمهورية يوم الجمعة الفارط .

يقع التقرير في 220 صفحة وهو ثمرة جهد لعمل إنصات وحوار واقتراح دام حوالي 9 أشهر وكان الهدف ، كما أعلن عنه رئيس الدولة في خطابه يوم 13 أوت 2017 ، إقرار مبدئين أساسيين في ترسانتنا القانونية : الحريات الفردية والمساواة ..

يحتاج هذا العمل من النخب الفكرية والسياسية وسائر المواطنين نقاشا معمقا نخرج به من رتابة المعهود وتكرار نفس «الحجج» وتصيّد مواطني الربح والخسارة السياسيتين بدلا من العمل على التقدم معا في مجالات الحريات الفردية والمساواة ..

سوف نتناول في هذه الأسطر الفلسفة العامة والحلول المقترحة من قبل اللجنة في باب المساواة بين الجنسين ..

لقد كاد النقاش العام الذي رافق أعمال اللجنة ينحصر في نقطة وحيدة وهي المساواة في الميراث بين المرأة والرجل في حين أن اللجنة قد نظرت في كامل ترسانتنا القانونية وأحصت كل الفصول والنصوص التي تحتوي على تمييز او بقايا تمييز بين المرأة والرجل ..

لا يشك احد بان دولة الاستقلال قد قدمت الكثير من اجل الغاء التمييز المجحف بين النساء والرجال وكانت مجلة الأحوال الشخصية بمثابة الثورة الثقافية والاجتماعية التي انطلقت مع بداية الاستقلال ولكن هذا الجهد القانوني لم يشمل كل مجالات التمييز وأبقى على بعضها .

ولقد أحصت اللجنة كل مواضع التمييز هذه في ثمانية مجالات جلّها يتعلق بالعائلة وبمواقع الرجل والمرأة فيها بدءا بمنح الجنسية للابناء وصولا الى التمييز في القانون الجبائي بمقتضى مفهوم رئاسة العائلة في التخفيضات الضريبية كما شمل عمل اللجنة مشروعا لإلغاء التمييز بين الاطفال بالغاء مفهوم «ابن الزنا» وتحقيق المساواة في الميراث بين الأبناء الشرعيين والطبيعيين .. وبالطبع إلغاء التمييز في المواريث هو النقطة الأبرز والتي ستسيل بدورها الحبر الأكثر ..

الجوهري في عمل اللجنة هو إقدامها على «تابو» ظل من قبيل المحظورات على امتداد ستة عقود باعتبار أن مسالة المواريث محسومة إلى الأبد ولا تحتمل الزيادة أو النقصان ..

تمشي اللجنة كان قانونيا صرفا..فالدستور التونسي قد أوجب على المشرع المساواة القانونية بين الجنسين وعليه لا سبيل لترك مجال هام وحيوي في حياة كل الناس وهو اقتسام التركة خارجا عن دائرة المساواة..

واللجنة اقترحت انزلاقا لغويا هاما يجعلنا ننظر إلى هذه المسألة المعقدة من منظور مختلف فلم نعد نتحدث عن الأب والأم بل عن الولي ولا عن الزوج والزوجة بل عن القرين ولا عن الذكر والأنثى بل عن الأبناء .. إذن تم تغييب، ما أمكن، الوصف الجندري وتعويضه – رغم الصعوبة في بعض الأحيان- بتصنيف القرابة بغض النظر عن جنس القريب والفكرة هي أن تتساوى منابات الجميع عندما يكونون في نفس مستوى القرابة ..

فمع وفاة أحد الزوجين يكون للقرين المتبقي على قيد الحياة نفس الحقوق والفكرة هنا هو أن يصعد المناب القديم للزوجة إلى مناب الزوج أي أن يكون للقرين المتبقي نصف التركة إن لم يكن هنالك أبناء والربع في صورة وجودهم ..

كما أن هذا المشروع يضع حدا لمظلمة تطال الأبناء فلو ترك الهالك بنتا واحدة فقط لما تمكنت من وراثة أكثر من نصف التركة في حين أن الابن الوحيد ير ث التركة كلها بعد إعطاء منابات القرين والجد والجدة .. وإن كانت هنالك بنتان فقط فهما لن ترثا أكثر من الثلثين ..

وكثيرا ما نجد هذه الوضعيات التي يتضرر فيها الأبناء خاصة وان معدل العائلة التونسية هو أربعة أفراد فقط ..

ولكن اللجنة لم تنظر فقط إلى مسالة المواريث من الزاوية القانونية بل أدرجت الوضع الحقيقي للعائلة التونسية اليوم وكيف أن عشرات الآلاف من الأرامل مهددات بشتى أنواع التشرد اثر وفاة الزوج فاقترحت اللجنة فصلا قانونيا يقر حماية لحق السكن للقرين الباقي على قيد الحياة ويضع لذلك شروطا أولها أن تكون العلاقة الزوجية قد استمرت لأربع سنوات على الأقل أو أن يكون هناك أبناء ويسقط هذا الحق في حالة الزواج من جديد ..

ولكن وضعت اللجنة شرطا مبهما مفاده ألا يكون المحل قابلا للقسمة وهنا مدخل لتأويل قد يهدر هذه الحق إذ بإمكان الورثة أن يعتبروا أن منزلا به ثلاثة شقق هو قابل للقسمة شريطة تعديلات بسيطة وهذا قد يكون مدخلا ينتقص من حق القرين الباقي على قيد الحياة .. ولعل الأجدر هنا أن يمتع القرين بحق السكن في محل الزوجية مهما كانت وضعية هذا المحل لأن في ذلك حفظا لكرامة القرين المتبقي على قيد الحياة وألا تفرض عليه قسمة مقنّعة بدواعي أن المحل قابل لها ..

ولكن بغض النظر عن هذه الجزئية -وهي هامة في نظرنا – فنحن أمام ثورة تشريعية هادئة، ثورة لا تقل أهمية عمّا أقدمت عليه البلاد إبان استقلالها ونتج عنها آنذاك مجلة الأحوال الشخصية ..

وما ينبغي أن يكون واضحا هو أن المساواة في الميراث وحرص الدولة فيما بعد على فرض هذا الحق إلا من تنازل عنه بمحض اختيار حر لا شبهة فيه إنما هو تمكين اقتصادي واجتماعي للمرأة وخاصة في المناطق الريفية وفي الطبقات الشعبية وإنّ هذا التمكين سيغير في حالات كثيرة من الحياة اليومية للعائلة التونسية إذ عادة ما يكون مناب الميراث منطلقا لنشاط اقتصادي يوفر موردا أساسيا أو إضافيا بالنسبة للعائلة ..

لا ينبغي أن يتحول الحوار عندنا إلى تحليل أو تحريم هذا المشروع فتونس قد حسمت هذه المسالة في دستورها وإقرارنا بأننا دولة مدنية يعني أن قوانيننا وضعية دون أن ينفي استفادتها من موروثنا الفقهي القديم .. والمشروع الحالي قد استفاد منه في وضع منابات القرين والأصول والفروع ولكنه اجتهد فقط في نزع الصبغة الجندرية عنها .هنالك عمل ضخم قد أقدمت عليه لجنة الحريات الفردية والمساواة والآن الكرة عند رئيس الجمهورية من جهة ونخب البلاد من جهة أخرى للنقاش والإثراء والتحسين .. وكما قلنا في مرار عديدة نحن نحتاج أيضا لعمل بيداغوجي هام يرافق هذه الثورة التشريعية ليبين

انعكاساتها الايجابية على الحياة العملية للأسرة وان هذا العمل ليس استنقاصا من الدين أو تحديا له بل هو لبنة أساسية في الرقي الروحي والمادي لكل التونسيين.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115