مشروع قانون يهدف إلى تغيير قواعد لعبة اختيار أعضائها: حتى لا تولد المحكمة الدستورية ميتة !

تختلط علينا السبل كثيرا في هذه المرحلة من تاريخ بلادنا فلم نعد ندرك دوما

هل نحن في الطريق الصحيح أم لا ؟ وهل أن تعثرات المسار الانتقالي مرضية أم جوهرية قد تهدد روح مشروعنا الجماعي؟.
ويعود هذا الاضطراب إلى عدم تواضعنا على مقاييس حكم موحدة .. فهل الديمقراطيات انتخابات متعاقبة أم هي مؤسسات مستقلة أم هي تفريق جدي بين السلط أم هي المزج بين التشاركية والنجاعة في السياسات العمومية ؟ !

هي ولاشك كل هذا في نفس الوقت وفي الديمقراطية، ككل مسار، هنالك الجوهري والثانوي وإن كانت اليقظة مطلوبة في كل شيء فإننا نستحق أعلى درجات اليقظة عندما يتعلق الأمر بلبّ المسار الديمقراطي وأعمدته الرئيسية ..
لقد اختارت تونس أن تتأسس ديمقراطيتها على توازنات دقيقة بين مختلف السلط ولكن اخترنا أيضا إدماج صنفين جديدين من السلط وهما السلطة المحلية وكذلك المؤسسات الدستورية المستقلة، هذه الاستقلالية التي تخيف الكثيرين اليوم في الساحة السياسية، كما وضعنا وتواضعنا على ما يمكن أن نسميه بسلطة السلط وهي المحكمة الدستورية التي أنيط بعهدتها الفصل

في كل خلافاتنا حول ملاءمة ترسانتنا القانونية السابقة واللاحقة مع مقتضيات احترام روح ونص الدستور ..

والمحكمة الدستورية وإن وضعت ضمن السلطة القضائية في الدستور باعتبارها أعلى هيئة تحكيمية وقضائية الا انه من الواضح أن لها وشائج عديدة مع الهيئات الدستورية في فلسفتها وحتى دورها في هندسة النظام السياسي الجديد في البلاد ..

ولذلك أقر القانون الأساسي الذي بعثها في 3 ديسمبر 2015 بأن ينتخب أعضاؤها الثمانية من قبل مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء (أربعة لكل جهة) بأغلبية ثلي الأعضاء في الحالتين على أن يكون دور رئيس الجمهورية تعيين الأعضاء الأربعة الأخيرين ومراعاة لإدخال التعديلات وتعيينا للكفاءات التي قد تكون سقطت من غربال مجلس النواب والمجلس الأعلى للقضاء ..

وهذه الأغلبية المعززة المشروطة أيضا في انتخاب كل أعضاء الهيئات الدستورية إنما قصدت حتى نضع المحكمة الدستورية والهيئات الدستورية فوق سطوة وسلطة أغلبية الحكم وحتى نضمن منذ البداية، الحد الأدنى من الاستقلالية ومن أوسع توافق ممكن حول شخصيات مؤتمنة على سلامة المؤسسات الديمقراطية وديمومتها وأغلبية الثلثين هذه هامة جدّا كذلك لتجسير الثقة بين التونسي وهذه المؤسسات الجديدة لأن المؤسسين أرادوا من خلالها تحصين الديمقراطية من كل انحراف أو استحواذ للاغلبيات السياسية المتعاقبة من انتخابات إلى أخرى .. وبناء الثقة في الانتقال الديمقراطي هو أساس كل شيء ..

ولكن نفاجأ بعد أن تأخر مجلس نواب الشعب بأكثر من سنتين على إرساء المحكمة الدستورية وبعد أن تلاعبت بعض الكتل النيابية وعلى رأسها كتلة نداء تونس بالتوافق الممضى عليه من قبل جميع كتل البرلمان حول الأسماء الأربعة لنيل شرف الانتماء لهذه المحكمة نجد أن السلطة التنفيذية وبرأسيها تريد عبر مشروع قانون أودع يوم 15 ماي بمجلس نواب الشعب أن تغير قوانين اللعبة وان تنتقل من الأغلبية المعززة (145 نائبا) إلى الأغلبية البسيطة (109 نواب) بل وحتى دون ذلك أيضا والحال أن التوافق الذي اشرنا إليه قد استفادت منه فقط مرشحة نداء تونس وأصبحت ، نظريا، عضوة بالمحكمة الدستورية وبأغلبية الثلثين ..

لا نريد أن نتهم السلطة التنفيذية بالرغبة في وضع كلتا يديها على المحكمة الدستورية ونريد أن نسلم لها ببعض الوجاهة في وثيقة «شرح أسباب» المصاحبة لمشروع القانون هذا والتي تشدد فيها على انه ورغم إجراء دورات ثلاث متتالية إلا انه لم يتم انتخاب جميع الأعضاء وإذن تكون نية السلطة التنفيذية إنما هي توفير الشروط القانونية للخروج من وضعية الانسداد هذه ..

ولكن على فرض وجاهة هذه الحجة هل تساءلت السلطة التنفيذية عن الكلفة السياسية لهذا القانون لو تم تمريره ؟ وكيف سترد على نقد إرادة وضع اليد السياسية والحزبية على المحكمة الدستورية ؟
هذا دون الحديث عن قلة «الذوق القانوني».. كما يقال وإرادة تغيير قواعد اللعبة أثناء اللعب..

ولكن لم استحال على المجلس انتخاب الأعضاء الأربعة ؟ الم تجد الأغلبية البرلمانية وخاصة الندائية في خطاب رئيس الدولة يوم 20 مارس والذي أعلن فيه عن احتمال تقديم مشروع قانون يغير من طريقة انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية ذريعة لافشال التوافق الواسع داخل المجلس بالاكتفاء بالتصويت فقط على مرشحهم مما أوضح خرقهم السافر لاتفاق ممضى ؟ ! أليست المشكلة سياسية قبل ان تكون قانونية او إجرائية ؟ ماذا ستجني البلاد من محكمة دستورية مشكوك في حياد أعضائها منذ البداية ؟ !

نحن لا نعتقد أن أغلبية الثلثين كافية لوحدها لضمان حياد الأعضاء وكفاءتهم العالية .. والعيب هنا ليس في القانون بل في الممارسات السياسية السائدة اليوم حيث تريد الأغلبية الحاكمة التقليص ما أمكن لها من استقلالية الهيئات الدستورية ومن خلق علاقة غير سليمة بين الأعضاء المترشحين لها وبين الحوانيت الحزبية القادرة على الحل والربط حين يضطر بعضهم - أو هكذا يتصور لهم – الى ضرورة الحصول على مباركة زعماء أحزاب الكتل البرلمانية حتى تكون لهم بعض الحظوظ للفوز .

إن هذه الممارسات المدانة هي التي يمكن أن تفرغ المحكمة الدستورية والهيئات المستقلة من جذوتها الأصلية بإبعاد أبرز الكفاءات وأهمها عن هذه المواطن السياسية لدعم الديمقراطية الناشة..

إن كانت الأغلبية المعززة عاجزة لوحدها عن إبراز أفضل ما في البلاد لقيادة هذه الهيئات فما بالك عندما تصبح أغلبية بسيطة بل ودون ذلك أيضا كما هو موضح في مشروع القانون هذا وهذا الأمر ينطبق كذلك على الأعضاء الأربعة الذين سينتخبهم المجلس الأعلى للقضاء ؟ !
لا نريد لبلادنا تمزقا جديدا ومهاترات لا طائل من ورائها .. فالإشكال في السياسة والسياسيين لا في القانون والإجراءات ..

ما يجسّر الثقة اليوم هو سحب هذا القانون والتأكيد بكل قوة على ضرورة التوافق بين كل الكتل وان يلتزم الجميع بهذا حتى نضمن الحد الأدنى من الاطمئنان بأننا نسير فعلا في اتجاه ترسيخ دولة القانون ..
أما لو أردنا دولة الأحزاب ودولة الأغلبية الراهنة فلنواصل هكذا .. ولكن عندها ينبغي ألا نلوم «الصائدين في الماء العكر»..
قديما قال الإمام الشافعي في قصيدة شهيرة :
نعيب زماننا والعيب فينا

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115