بعد الانتخابات البلدية وقبل الإمضاء (؟) على وثيقة قرطاج 2: الآفاق المسدودة والمخارج الصعبة

في الديمقراطية تأتي الانتخابات عامة لتوضيح المشهد السياسي لا فقط بالنظر إلى موازين القوى السياسية ولكن أيضا

انطلاقا من استخلاص كل الدروس من قبل كل الفرقاء ..

يبدو أن الاستثناء التونسي متواصل فالانتخابات البلدية زادت المشهد غموضا لا لصعوبة قراءة نتائجها بل لرفض بعض الأطراف الفاعلة استخلاص كل عبرها والقفز فوقها وعدم تحمل مسؤوليتها و التفكير في مخرجات سياسية لا تناسبها ..

الصورة اليوم في تونس سريالية إلى حد بعيد بل أحيانا إلى حد العبث ولكن في الحقيقة هنالك عقلانية ما وراء كل ما يحدث ونحن اليوم بصدد حصد جملة التناقضات التي زرعناها على امتداد ثلاث سنوات ونصف منذ بدء العهدة الانتخابية للأغلبية الحالية بل الأدق أن البداية تعود إلى تضمين دستور 2014 لتناقضات تعيش اليوم البلاد على وقعها المدوي..

لقد تبنينا نظاما سياسيا هجينا يعطي الأولوية للبرلمان ، أي للحزب أو للتحالف الحزبي الفائز والذي يدعى إلى تكليف زعيمه برئاسة الحكومة كما هو الحال في كل النظم ذات الصبغة البرلمانية ولكن نحن في تونس اخترنا أن نعدل النظام البرلماني بانتخاب مباشر لرئيس الجمهورية مما اضعف كثيرا ومنذ البداية منصب رئيس الحكومة رغم الصلاحيات الواسعة التي منحه إياها الدستور وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن رئيس الجمهورية المنتخب هو رئيس الأغلبية الفائزة ازداد هذا الانخرام وعدنا موضوعيا إلى ما يشبه منصب الوزير الأول وأحيانا حتى منصب منسق العمل الحكومي وأصبحت القصبة بمثابة متغيّر تعديلي (variable d’ajustement) يضحى بها كلّما أرادات منظومة الحكم إنقاذ نفسها ..

ثم إن فكرة حكومة الوحدة الوطنية التي أطلقها رئيس الجمهورية في جوان 2016 قد أقحمت في لبّ عملية التسيير السياسي طرفي الإنتاج الرئيسيين : اتحاد الشغل واتحاد الأعراف بما خلق إطار إضافيا يضاهي السلط المنتخبة ويفرض نفسه بالضرورة على الحكومة ما دامت هذه الأخيرة هي أهم مخرجاته ومدينة له رمزيا على الأقل بالتعيين الأول قبل ان تمنح ثقة السلطة البرلمانية ..

وإذا أضفنا إلى هذه الوضعية الموضوعية سلوكيات الأطراف السياسية وخاصة منها أحزاب الحكم والشبكات القريبة منها ازداد الوضع تعقيدا إذ تصرفت هذه الأحزاب وهذه الشبكات بمنطق المحاصصة الفجّ وباقتسام ما أمكن من المناصب العليا والوسطى وحتى المحلية والضغط على الحكومة الأولى (الحبيب الصيد) والثانية (يوسف الشاهد) من أجل «تناغم» التركيبة الحكومية والمسؤوليات الإدارية مع «نتائج» الانتخابات .. رغم أن فلسفة هذه الحكومة بالذات كانت متجاوزة منذ تأسيسها لهذه النتائج ..

ولكن لا يخفى على أحد أن أزمة البلاد ليست فقط مؤسساتية بل هي أزمة حكم بالمعنى العميق للكلمة أي أزمة حوكمة وأزمة نتائج وأزمة قدرة على إنفاذ القانون .. وهذه الأزمة المركبة تتجاوز بكثير أداء هذه الحكومة أو غيرها .. إنها تراكمات تساهم فيها قوى عدة ولم تتمكن بعد أية حكومة من إيقاف هذا الانحدار ..

وواضح كذلك أن كل الأعناق مشرئبة للانتخابات العامة في 2019 ممن يمني النفس بالانتصار فيها والعودة إلى الحكم من الباب الكبير كحركة النهضة إلى مَنْ يخشى الانهيار التام كنداء تونس وبين هذا وذاك تشحذ الاستراتيجيات التي تسمح بالانتصار أو تمكن من تقليص الهزيمة وهذا دون الحديث عن «أم المعارك» وعن الحلم الأكبر للعديد من القيادات الحزبية الكلاسيكية أو من الحالمين بإعادة تجربة ماكرون في تونس ونقصد هنا الانتخابات الرئاسية ذات الجاذبية الكبرى والتي تخرج عن الاستراتيجيات الحزبية الصرفة ..

وينبغي أن نضيف إلى هذا «الكوكتيل» الوضع المالي الصعب والصعب للغاية للبلاد وأننا أمام احراجات لا نعرف كيف نخرج منها: فمن جهة لدينا التزامات قوية مع صندوق النقد الدولي تقتضي الحد من الإنفاق العمومي وخاصة في مجال أجور الموظفين ومن جهة أخرى دخلنا في مفاوضات اجتماعية ستكون صعبة للغاية نظرا لتدهور المقدرة الشرائية للأجراء بحكم تضخم غير مسبوق وحكومة لا تملك تعويضه .. هذا دون الحديث عن كل الإصلاحات المعلنة والتي لم تدخل بعد حيز التنفيذ والتي تكبد المالية العمومية خسائر استثنائية ..

والخوف كل الخوف اليوم هو أن يضجر صندوق النقد من التردد التونسي في إنفاذ تعهداته وان يسحب بقية القرض الممدد ومعه تلك الضمانة الضرورية التي تسمح لنا بالاقتراض المعقول إلى حد ما من مختلف الجهات الدولية ..

كل هذه الاكراهات تجتمع اليوم في ما سمي بوثيقة قرطاج 2 بين تجاذبات الأطراف الاجتماعية ورغبات الجهات السياسية من أحزاب حكم ورئاسة الجمهورية ..

اليوم الضباب كثيف والرؤية تكاد تكون منعدمة وكل المؤشرات تقول بأننا مقدمون على حلول ترقيعية جديدة على كل المستويات : في الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وفي معالجة معضلة المالية العمومية وفي التغيير الوزاري وفي استيعاب نداء تونس لهزيمته الانتخابية .

وهذه الحلول الترقيعية هي النتيجة الطبيعية لكل ما زرعناه على امتداد هذه السنين الأخيرة وعلى وهم الوفاق المُعَطِّل وعلى غياب النفس الإصلاحي الشامل والقوي..

من يملك تغيير المعطيات وتوفير مخارج جديدة لأزمة متفاقمة ومعقدة؟ رئيس الجمهورية بالطبع المناط بعهدته دستوريا السهر على مصالح البلاد.. ولكن الخروج من هذه الأزمة يتطلب جرأة عالية وحلولا موجعة لا لسائر المواطنين بل لدوائر الحكم أساسا.. وبعدها يصبح بالإمكان طلب التضحيات من الجميع ..

الفرق الوحيد بين أزمة اليوم وأزمات الأمس أننا لم نعد نملك ناصية الوقت ولم يعد بإمكاننا اللعب في الوقت بدل الضائع..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115