نهائي الكأس في كرة القدم: الأميرة والسلطان

بقلم: محمد جويلي
أستاذ علم الاجتماع/ جامعة تونس
1 - لا يخلو حدث نهائي كأس تونس في كرة القدم من نفحات جنسية.

بمجرّد الحديث عن الأميرة و عن الذي سيفوز بودّها ترتسم أمامنا علامات تفيد أن لعبة كرة القدم لعبة تنطبق عليها مقولة الجميلة للأجرأ. علاوة على مصطلحات القذف و عذارة الشباك والانتشاء بتسجيل الأهداف، يبدو نهائي الكأس ختاما لعرس تزف فيه الأميرة للفارس الذي ينجح في ترويضها. الأميرة للكأس،حبّ من نظرة واحدة و الأسد للبطولة،حبّ مع المطاولة...

2 - محمد الزقلاوي، مدرّس تعليم ابتدائي، حداثي بكل مقاييس مرحلته، يذكر التاريخ أنه كان أحد مؤسسي النادي الإفريقي سنة 1920 ويذكر له التاريخ أيضا أنه كان من مؤسسي النجم الرياضي الساحلي سنة 1925. يشترك الناديان في شخص الزقلاوي مثلما يشتركان في اللونين الأحمر والأبيض، هما علامتان فارقتان في الحركة الوطنية الرياضية. مباراة النهائي مهداة إلى روحه الجميلة..

3 - أول نهائي شاهدته في حياتي و أنا متسمّر أمام تلفاز، كان نهائي 1974 بين النادي الافريقي و النجم الرياضي الساحلي.شاهدت المباراة في بيتنا في سياق حداثي بكل المقاييس.كان جهازا عائليا وليس عشائريا كما كانت عليه عادة الفرجة في ذاك الزمان. مكنتنا حرب أكتوبر 1973 من تلفاز في منزلنا، اشترى والدي الجهاز منتشيا بانتصار أكتوبر وانتشيت أنا بفرجة مريحة لمباريات كرة القدم.

4 - بين الشوطين، أو عندما تمسرح الزعامة صورتها. يدخل الرئيس الحبيب بورقيبة ملعب المنزه من أجل الإشراف على نهائي الكأس وهو نهائي فخامته أيضا. ينتظر انتهاء الشوط الأول ليبدأ شوطه الخاص، يقوم بدورته الاستعراضية في سيارته المكشوفة يحمل في يده عصا يستعملها في تحية الجماهير. شوطان لكرة القدم وشوط بينهما للسياسة. لا يحضر الزعيم الشوط الأول من المباراة، الأمر ليس هينا. يريد أن يختصر حضوره في شوط يأخذ نفس زمن شوط كرة القدم، وكأن المباراة تبدأ فعليا مع حلوله بالميدان. الشوط الأوّل من المباراة لا يعنيه في شيء. كرنفال الزعامة له نواميسه.

5 - مباريات كرة القدم معين لا ينضب من السرديات. نكاد نجزم أن لكل مباراة سرديتها حتى لو كانت بدون رهان وحتى لو كانت بين ناديين في قرية نائية وفي دوري المظاليم، فما بالك بمباراة نهائي الكأس. السردية هي تلك الحكاية التي تعطي للمباراة طعمها و نكهتها، هي تلك التفاصيل التي حين تتجمع تشكل كتيبة دفاعية و هجومية يمكن أن تفوز لوحدها بالكأس دون إجراء المباراة من أصلها. السردية هي ذلك العنوان الذي يستهل به النادي جمهورا و إدارة و لاعبين ومحيطين حملة دفاعه عن اللقب. السردية أيضا هي طاقة الحكي التي يلوكها المعنيون بالفوز إلى درجة تعتقد معها أن المباراة بين الألسن و ليس بين الأقدام. كثيرة هي السرديات التي منحت فوزا في مباراة لأنها كانت تضاهي في عنفوانها سرديات الحروب الكبرى، و كثيرة تلك السرديات التي ساهمت في خسران مباراة لأنها لم تكن محبوكة كما يتوجب ذلك.

6 - السردية التي دخل بها النادي الإفريقي مباراة نهائي الكأس وقع الإعلان عنها منذ نهاية مباراة نصف النهائي. لم يحتج مسؤول النادي أي مجهود ليعلن على الملأ أن النادي سيلعب المباراة من أجل الشهيد، من أجل عمر العبيدي. سيضع جميع اللاعبين نصب أعينهم صورة الشهيد و سيضعها هداف الفريق تحت تبانه ويعرضها أمام الكاميرا حين يسجل هدفا. جمهور النادي و مناصروه سيدفعون بتشجيعهم إلى الأقصى وهم ينصتون لصدى الشهيد «لا أعرف العوم». السردية تبلغ نشوتها حين أعلن مرّة أخرى مسؤول النادي أن رمز الكأس لو تمّ الفوز سيأخذ طريقه مباشرة إلى منزل عائلة الشهيد، عندها يمكن إرجاع جزء من الدّين.

7 - السردية الغريمة هي سردية من نوع جديد. سردية يقع حبكها في أسوار الفيفا، يريد النادي لعب دور المبلّغ عن الفساد و المناهض له. مقاومة منظومة الفساد في كرة القدم التونسية هي التي ستكون الدافع للانتصار في مباراة النهائي. وسيكون الفوز بالكأس هو بمثابة الفوز على الهيكل الذي دخل معه النادي في صراع مرير. يعيش النجم الرياضي الساحلي منذ أشهر على هذه الفكرة، هي هاجسه الوحيد ويريد اختزال كل الأحداث في هذا الهاجس. سيضع النادي في أذهان لاعبيه و في أذهان جمهوره السرديّة التي يمكن أن تريحهم في كل الأحوال. إن جاء الفوز بالكأس فذاك فوز على الفساد و إن خسر الفريق فإنه قدّم نفسه قربانا لمقاومة الفساد.

8 - مباراة النهائي مباراة «كلاسيكو» والتسمية تخص المباريات التي تقام بين فريقين من مدينتين مختلفتين، أما «الدربي» فهو مباراة بين فريقين من مدينة واحدة. تحيلنا التسميات إلى العلاقة بين كرة القدم و المدينة. لقد ساهمت اللعبة منذ نشأتها الحديثة في إعادة تشكيل المدن، من حيث شبكة النقل و تشييد الملاعب والفضاءات المخصصة لأنشطة النوادي ومساحات جديدة من التنشئة الاجتماعية. هناك جمالية جديدة للمدن تنشأ وفق الامتدادات الحضرية لنوادي كرة القدم. المدينة شكل من أشكال العيش المشترك حسب تعاقدات متعدّدة و مختلفة وكرة القدم هي أحد العناصر التي تبني هذا التعاقد. الحقّ في المدينة هو حقّ في التماهي مع فريق كرة قدم..

9 - المباريات الكبرى في كرة القدم ومنها مباراة النهائي يستعدّ لها السياسيون الحاليون بحضورهم اللافت في المنصة الشرفية و في مواقع أخرى من المدارج حسب مواقعهم من حكومة الوحدة الوطنية. يدخل حضورهم في سياق أنشطتهم السياسية الناعمة حتى ولو قالوا عكس ذلك. لقد منح الانتقال الديمقراطي خلاصا للسياسيين من الإثم الذي يعطي انطباعا بأن السياسي الشغوف بكرة القدم يفتقر إلى الجدية اللازمة للاهتمام بشؤون الناس. وننتظر أن يتخلّص بعض الأكاديميين و المفكرين من إثم مشاهدة كرة القدم. الشاعر الفلسطيني محمود درويش مداعبا الحضور الكثيف لأمسية شعرية له في إحدى المدن المغربية في الوقت الذي تجرى فيه مباراة عالمية في كرة القدم : لو كان المتنبي نفسه صاحب الأمسية الشعرية هذا المساء لفضّلت عليه مشاهدة المباراة. أجمل ما قرأت نصّ لدرويش عن مارادونا. أما أمنية نزار قباني وهو يشاهد مارادونا يشق الصفوف نحو المرمى فهي «ليته كان شاعرا»..

10 - سيكون النهائي كرنفالا من المشاعر الفياضة، سيبكي من يبكي و سيفقد الكثيرون صوابهم الأبوي إنتشاءا أو حسرة. سيتضرّع الجميع إلى مولاهم، و سيسبونه في كل تمريرة خاطئة. ستنال أمهات اللاعبين و المدربين نصيبهن من السباب و الشتم. نفس الأمّ التي نالها ما نالها من هذا الشتم ستكون أروع الأمهات لو تمكّن ولدها من إنقاذ المباراة. سيقبّل الكثيرون بعضهم البعض دون سابق معرفة. و سيسري حبّ جماعي دافق بين المناصرين إن فازوا بالمباراة. كرة القدم اختزال للوجود البشري بلا منازع و ربما هذا هو سرّ هيمنتها على العالم.
11 - كرة القدم مصنع لا ينضب للهويات.الهويات الفردية كما الجماعيةـ الإثنية كما الدينية، المحلية كما الجهوية، الوطنية كما القومية. كلها تجد في هذه اللعبة فرصا للتجلي و فرصا للحياة. عديدة هي المدن و الأحياء والقرى التي تنهض من تحت الأنقاذ بمجرّد مباراة كرة قدم. عديدة هي الدول التي تستعيد ألقها بامتياز في كرة القدم. ما هذه اللعبة التي تشحن الهويات وتعطيها الطاقة الجبارة التي تجعلها قادرة على شحن الناس، على شدّ أزرهم و على إعطائهم معنى للانتماء. صديق لي وهو من إحدى قرى هامش الساحل التونسي أسرّ لي بأنه لا يشعر بكونه «ساحلي» إلا عندما يكون النجم الرياضي الساحلي طرفا في مواجهة كروية، وستمنحه مباراة النهائي هذا الشعور مجدّدا..

• الحصص الإضافية
الحصص الإضافية ميزة الأدوار النهائية، هي عنوان المداومة وعنوان اللياقة و الإرادات وعنوان التركيز على صعوبته الخالصة. الإنهاك يبلغ مداه فيتحدث فقهاء اللعبة في المدارج عن الطاقة المضادة للانهيار، يريدون تمريرها للاعبين في الميدان، ويدفع المناصرون الأوفياء بحناجرهم أقداما متثاقلة من وجع المباراة.. قد يأتي شخص في اللحظات الأخيرة و يعلن الخلاص بهدف يسميه الجميع هدفا قاتلا..يا لهول ما سنرى..

الركلات الترجيحية
ركلات الشؤم، ركلات الحظ العاثر، ركلات الصمت الجنائزي، ركلات الموت السريري وركلات الحظ السعيد و ركلات طائر الفينيق الذي ينهض من تحت الأنقاض. كل التوصيفات مباحة في هذه اللحظات التي تتوسط الحالة بين الموت و الحياة. حارس المرمى وحده يمكن أن يكفّر عن كل ذنوبه الماضية بالتصدي للركلات، عليه أن يبقى صامدا أمام عذابات كل ركلة ترجيحية. و يمكن كذلك للاعب أن يحصد لوحده لعنات الدنيا و الآخرة.
تلك هي كرة القدم، ذلك هو نهائي الكأس، وتلك هي الأميرة، جازية هلالية تترقب من سيكون الأجدر بها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115