Print this page

أزمة التعليم الثانوي: هل من حل ينقذ المدرسة العمومية ؟ !

 دخلنا اليوم الخط المستقيم الأخير السابق للامتحانات النهائية والوطنية في التعليم الاعدادي والثانوي مع امتحانين أساسيين يحددان في الأغلب

الأعم المسار الدراسي ومن ثمة المهني لتلاميذنا اليوم وهما امتحان شهادة ختم دروس التعليم الأساسي (النوفيام ) وامتحان الباكالوريا ..

الوضع اليوم باق على ما هو عليه : قرار حجب الأعداد من قبل النقابة العامة للتعليم الثانوي وقرار من وزارة التربية بأنه لا تفاوض دون رفع حجب الأعداد وان استمر هذا الحجب فقد تلجأ الحكومة لحجب الأجور ..

والسؤال اليوم هو السؤال اللينيني القديم: ما العمل ؟ كيف السبيل للخروج من هذه الأزمة دون أن يتم الإضرار لا بسمعة الدولة ولا بالقيمة الاعتبارية للمدرسين ولا كذلك بالمدرسة العمومية ؟ !

يبدو في الظاهر أننا في زقاق لا مخرج منه فالكل يقول ويرى بأنه مستعد للحوار ولكن دون تقديم أي تنازل قبل بداية التفاوض ..

لو أنصتنا إلى طرفي النزاع اليوم لانتهينا بأنه لا حلّ في الأفق وأن الخلاف بينهما ليس كميا يتعلق بحجم الزيادات بل نوعيا ويرتبط أساسا بفلسفة التفاوض ..

عندما نكون أمام أزمة لا حل لها في الظاهر ينصحنا فيلسوف الإغريق أفلاطون بأن نقوم بمنعرج كبير (un grand détour) حتى نتمكن من تناول مختلف المسائل بصفة مغايرة جذريا لأزمة حجب الأعداد ورفض الوزارة ما تسميه بالابتزاز التفاوضي ..

ما هو الأهم اليوم ؟

الأهم ولاشك هو الحفاظ على قيمة المدرسة العمومية ولا قيمة لمدرسة عمومية بلا قيمة اعتبارية ومادية وبيداغوجية للمدرسين ..

والمطلوب من المدرسة العمومية ، ولاسيما في الاعدادي والثانوي محل النزاع، ليس فقط تمدرس الغالبية من جيل ما بين 12 و18 سنة بل حسن إعداد هذا الجيل لكي يكون قادرا على الامتياز والتفوق المدرسي أو المهني ومستعد لخوض غمار المنافسة لا فقط على المستوى الجهوي أو الوطني بل وكذلك على المستوى العالمي ..

وحتى تقوم المدرسة العمومية بهذه الرسالة لابد أن يكون كافة مدرسيها قد تلقوا أفضل تكوين على المستويين العلمي والبيداغوجي وان يتفرغوا بالكلية لأداء الواجب النبيل .. وهذا لن يكون إلا بمراجعة جذرية لسلم التأجير والذي ترتبط به حتما المكانة المادية والاعتبارية للمدرس..

وهذا يعني انه لا مكان في القسم لأستاذ ضعيف المستوى العلمي أو البيداغوجي وما ينطبق على الأستاذ ينطبق على كل الإطارات التربوية والبيداغوجية ويبدأ هذا من التكوين الأصلي للأساتذة في مدارس ترشيح المعلمين وفي رفع ملموس لرواتب المدرسين دون أن يثقل ذلك كاهل ميزانية وزارة التربية ..

لا ينبغي أن نعود كثيرا إلى الوراء ..

في هذه السنة الدراسية لدينا 902.595 تلميذا بالمدارس الاعدادية والثانوية لـ79.500 أستاذ .. قبل اقل من عقدين في السنة الدراسية 1999 /2000 كان لدينا بالمدارس الاعدادية والثانوية أكثر بقليل من هذا العدد : 908.248 تلميذا لحوالي نصف عدد الأساتذة : 42377 تحديدا ..

اليوم لدينا معدل أستاذ لكل 11.9 تلميذ بينما كان هذا المعدل في سنة 2000 بـ21.4.. هل ربحت المدرسة العمومية بتضاعف عدد الأساتذة ؟ وهل ربح الأساتذة أنفسهم ؟ قد يكونون ربحوا فصولا اقل كثافة ولكن كل الدراسات تبين بأن مستوى التعليم لا يتحسن ضرورة مع التخفيض في معدل الفصل ولكن الغريب أننا لا نجد تناسقا في كثافة الفصول بين سنتي 2000 و2018 ففي الاولى كان بـ 32.9 تلميذ والان هو بـ25.5 اي ان هنالك شيئا ما لم يحصل بالتناسب ..والسبب في ذلك هو تقليص عدد ساعات التدريس بالأساس مع التخفيض النسبي في سن التقاعد ..

لنقدم فرضية بسيطة : ماذا لو اشتغل الأساتذة بالنسق الذي كانوا يشتغلون به منذ 20 سنة مع مضاعفة اجورهم ؟ !

نحن لا نقول بالطبع باعفاء نصف الاساتذة ولكن بالامكان ايجاد حلول وسطى سريعة ومناسبة للجميع من صنف الترفيع البسيط في كثافة الأقسام وفي زيادة جزئية لعدد ساعات التدريس مع ترفيع هام في اجور الاساتذة مع اشتراط خضوع من لم يمر منهم بمدارس ترشيح الأساتذة الى تكوين ورسكلة والمحافظة فقط على المتميزين وعلى الراغبين في عقد الأهداف هذا مع المدرسة العمومية وقد يلتحق من لا يرغب في ذلك بالإدارة سواء كان ذلك في وزارة التربية أو في وزارات أخرى ..

والمهم في كل هذا ليس هو التناسب الحسابي بين عدد الأساتذة والتلاميذ وكتلة الأجور بل في توفير مناخ جديد بالمدرسة يعيد التفوق والتميز إلى جوهر العملية التربوية ..

ألا يكون من الأجدى والأجدر بنا اتخاذ هذا المنعرج الكبير للنظر مجددا في الأزمة الحالية ولكن من أفق مختلف؟ أفق يسمح للجميع بالخروج من الأزمة برأس مرفوع وبحلول جديدة ومجددة مع مراعاة الوضعية الاقتصادية الصعبة للبلاد لكن مع الإيمان الجدي بأن المدرس هو المنتج والراعي الأساسي للذكاء التونسي وان وضعه المادي والاعتباري لابد ان يتناغم مع هذه المهمة القديمة / الجديدة التي يوكلها اليه المجتمع ..

ويبقى السؤال : هل نريد اليوم فعلا حلولا جديدة لتونس أم نريد فقط مفاقمة الأزمات الكبيرة الواحدة تلو الأخرى ؟ هل نريد انتهاج المنعرجات الكبيرة بروح ايجابية ام صمم الأذان والإصرار على انتهاج الطرق المسدودة ؟

والجواب مرتبط فقط بزاوية النظر : النجاة أو الغرق ..

 

المشاركة في هذا المقال