Print this page

متى سننصرف إلى ما ينفع .. ؟

في خضم استعدادات فاترة للانتخابات البلدية قبل شهر وبضعة أيام من موعدها ، تشهد البلاد

موجة من الاحتجاجات في عدّة قطاعات و جدلا حول حجب أعداد تلاميذ التعليم الثانوي و التلويح بعدم خلاص أجور الأساتذة و بروز «تصور إجراءات قانونية» لتتبع المتمسكين بحجب الأعداد . كل هذه الأحداث ، تعكّر صفو المناخ العام ،و تخلق حالة من التبرّم والإحباط يصعب تحملها في وضع اقتصادي متردّي.
و في هذا المناخ العام تعود الأوساط السياسية والاجتماعية مجدّدا للحوار حول الأولويات الّتي يقتضيها الإصلاح العاجل للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالرغم من أن الأولويات الّتي تم ضبطها ضمن «وثيقة قرطاج» لم تتغيّر و أن أغلبها لم ينجز ، و لا جديد غير مزيد تفصيل الخطوط العامة في هذا الميدان أو ذاك .

لا يمكن أن نتخذ موقفا للتعبير عن رفض الحوار بين مكونات المجتمع السياسي والاجتماعي ، بل هو أمر محبّذ لحل أمهات المشاكل ، و لكن ما يخشى منه أن يكون الهدف متوقّفا في حدود تهدئة الخواطر ، ولملمة الإشكاليات دون توفّر إرادة حقيقية لتغيير السّائد ،و القيام بالإصلاحات العاجلة بمجرّد الانتهاء من التشخيص و رصد الحلول . و ينجم عن هذا تأجيل النظر في عملية الإصلاح الحقيقية ، والاكتفاء بالترميم الفوقي و صياغة اتفاقيات جديدة لا يمكن تطبيقها ، لإنبنائها على توافق عابر غير مؤسّس على تصورات جادّة قادرة على تحقيق نقلة نوعية في خطّة الدولة لتجاوز الأزمة.

هذه التصورات لا تكون بالتمنّي، ولا تبنى على الأحلام ، و إنّما تتطلب الواقعية و المصارحة و الاستشراف المبني على ما هو متوفّر من إمكانيات و على القراءة المتأنية و الصحيحة للأوضاع الحالية ،و للتوقعات المؤسسّة على معطيات مدروسة تتوفر فيها نسبة عالية من احتمالات الإنجاز.

إن الانطباع الحاصل للمتابع أن ردود فعل مؤسسات الدولة و هياكل المنظمات ، تبدو وكأنها سلوكيات أشخاص ، تغلب عليها الانفعالية و«الشخصنة» كتلك التي نتابعها في مجلس نواب الشعب، إلى درجة أن المواقف أصبحت لا تنسب في أغلب الأحيان للمؤسسات و الهياكل، و إنّما لفلان و علاّن ، و هو ما يسهم في توتير الأجواء و تتحول المحاجّة و المجادلة إلى عراك وتلويح بالنعوت والصفات جزافا ، وهو ما ينزع المصداقية عن أي حوار و ينزع الثقة عن أي وعد أو اتفاق.

لذلك لا يخفى تسرّب الشك في نجاح أي مسعى للتجاوز و في إنجاز خطوة جادة في تجاوز المصاعب التّي تعيشها البلاد.

بنفس الحدة يتواتر الحديث عن إحياء هيئة جديدة للحقيقة والكرامة بتركيبة جديدة، بالرغم من أن التجربة السابقة بيّنت محدودية هذا المسار الّذي انخرطت فيه البلاد بصورة متأخرّة و بُنيَ على تصورات و حسابات خاطئة تمّ التشريع لها في غفلة أو في غفوة من المجتمع السياسي والمدني ، فحُمّلت بما لا تحتمل.

ويحدث هذا بالرغم من أن المدّة الّتي كانت محل خلاف تتعلّق بالتمديد لسنة فقط طبق ما تمّ التأسيس له ،و كأن بأصحاب المقترحات والتصورات الجديدة ،يوحون بأن الأعضاء أو القيادات الجديدة المنتظرة تحمل مفاتيح «العدالة الانتقالية» وستتوصّل خلال سنة لإنجاز ما لم ينجز بقدرة قادر ،و بأنهم سيكونون كالبنيان المرصوص في «هيئة حقيقة وكرامة» معدّلة «قادرة على قلب كل المعادلات الّتي فشل فيها السلف.

من هنا نفهم ، أن تقييم التجربة التونسية في مسار العدالة الانتقالية ، لم يحصل ،و أن النخبة السياسية تصّر على أن الحلول تتوقف على زيد أو عمر بالرغم ما للخصال الشخصية من أهمية في إدارة الهياكل والمؤسسّات .
لا أحد من المتمسكين بهيئة الحقيقة والكرامة يريد التسليم بالفشل في إدارة هذا المسار ضمن الهيئة الّتي تمّ إحداثها ، رغم توفّر إمكانيات تحقيق نفس الأهداف، عبر نفس الآليات ضمن المنظومة القضائية في دوائر متخصّصة ، كما يحصل في عدّة فروع من القضاء .

إن الزمن لا يتوقّف ،و إن أوضاع البلاد لا تحتمل مزيدا من الانقسامات و إهدار الوقت والمال ، وما نحتاجه هو الانصراف إلى مزيد العمل والبذل لتجنب الهزات و تفاقم التأزم . فالعدالة الانتقالية ليست منبرا لرفع الشعارات والمحاسبة لا تتوقّف على هيكل ما خاصّة إذا ثبت فشل هذا الهيكل لأي سبب من الأسباب ، وكذلك الأمر بالنسبة للمصالحة و كشف الحقيقة.

إن ما يجب الالتفات إليه و الاهتمام به هو الإصلاح الشامل و العميق للمنظومة القضائية عصب العدالة الدّائمة كأساس لبناء المستقبل، الّتي في ظلّها يمكن تحقيق قيم العدل والإنصاف. إنها الأولوية المنسية ، و من الخطر أن يبقى الحال على ما هو عليه ، و أن تبقى البلاد تدور في الحلقات المفرغة ، ضمن أجندات و حسابات معلومة و غير معلومة ...

المشاركة في هذا المقال