Print this page

في الشأن السياسي والوضع العام لخبطة عارمة و غليان شامل !!

المتابع للشأن العام بتونس لا يحصل له الإنطباع بأن البلاد مقدمة على أول انتخابات بلدية في ظل الجمهورية الثانية الّتي كانت أغلب فئات

الشعب تنتظر أن تتحقّق فيها تحولات نوعية على درب الانتقال الديمقراطي و الإقلاع الاقتصادي والسلم و التقدّم الاجتماعيين.

فمكوّنات المجتمع السياسي والمدني الّتي كان من المفترض أن تكون في خضم حملات التعريف بالبرامج والتصورات المتعلقة بالحياة المحلية والجهوية ، و إبراز أفكارها و برامجها و مقترحاتها، في آخر عام للفترة النيابية والرئاسية ، تجدها منشغلة بالمبارزات الهامشية و معارك المواقع ، وتسجيل «النقاط» ، دون الانصراف إلى البحث عن الحلول الناجعة لإخراج البلاد من المآزق الّتي هي فيها .

فعلى مستوى استكمال تركيز أهم مؤسسّة دستورية ، متمثلة في المحكمة الدستورية الّتي كانت مطمح المتطلعين إلى تركيز احدى دعائم دولة القانون و المؤسسات ، بقيت الأخيرة محل تجاذبات «متخلّفة» تبحث عن توافقات في مجال يقتضي أن تكون الكفاءة والحياد و الاستقلالية الأسس الّتي تنبني عليها .
وعلى مستوى تقييم و إصلاح النظام السياسي و النظام الانتخابي ، تحوّل ما تم تشريعه إلى حلبة مجادلات حول اختيارات أسست لها كل الأطراف الفاعلة في الحياة السياسية والعامّة ، و أصبحت الأفكار و التصورات المطروحة إعلاميا ،مادّة أساسية في الشأن السياسي اليومي ، دون أن تكون مطروحة أو مُقترحة للنظر داخل الهياكل المعنية بصفة رسمية.

أما على مستوى الأداء الحكومي ، فقد بدا الخيط الّذي يجمع حبّات (أطراف )عِــــقد الوحدة الوطنية ، متهرّئا ، ينكبُّ طرفا الأغلبية الحاكمة (النداء والنهضة) على رتقه ، فتحوّلت وثيقة قرطاج إلى ورقة عمل بيد لجنة مطالبة بتهدئة الخواطر والأوضاع في انتظار حل قد يأتي أو لا يأتي ، بغاية وضع جسر يوصل إلى استحقاقات 2019 بأخف الأضرار.

و قد أدّت طريقة المعالجة هذه ، إلى وضع حكومة الشاهد موضع الحكومة «المنبوذة» أو المغضوب عليها ، ممّا سيزيد في الحد من اعتبارها و نفوذها ، الأمر الّذي سيجعل قائدها خلال المرحلة المقبلة ، يتحرّك بتخوّف و توجّس، و هو ما سيحدّ من نطاق تحرّكه و من نطاق تحرّك أعضاء حكومته و خاصّة الّذين ينسب لهم ضعف الأداء و عدم النجاعة .

و الغريب أن مشهد الشاهد يتخبّط لإنقاذ حكومته من «الغرق» ، تحوّل إلى مجال استمتاع لدى البعض وتشفّي لدى البعض الآخر ،و امتدت أياد أخرى لدفعه إلى الأعماق داعية في نفس الوقت إلى إنقاذ الغريق.

كل ذلك و الكل يتجاهل أن الغريق الحقيقي هو البلاد الّتي ما تزال تتخبّط لتجاوز المصاعب الإقتصادية ، و الّتي ما إن تتمّكن من إطفاء فتيل حتّى يشتعل آخر ، ممّا جعل كل الإهتمام منصبّا على إدارة الأزمة تلو الأزمة ،و على إهدار الوقت في حل أزمات حقيقية ومفتعلة ، و تبقى المعاناة من الآثار ،عالقة و مفسدة للسلم الاجتماعية في مفهومها الشامل .

إن المركزية النقابية غير راضية عن الأداء الحكومي و تقف عموما ضد خوصصة المؤسسّات العمومية و غير راضية عن تدهور المقدرة الشرائية و طرق معالجة الأزمة الاقتصادية ومقاومة الفساد. وإتحاد الأعراف من جهته ،غير راض عن أداء حكومة الشاهد ، لأنها لا تبذل أي مجهود في دعم القطاع الخاص لتخليصه من معوقات الاستثمار ومن العمل في مناخ ملائم ، و تفتقر إلى نظرة سياسية شاملة قادرة على معالجة التردّي بإجراءات فعّالة في مختلف المجالات كفيلة بتحريك عجلة النمو.

كما أن الأحزاب السياسية المعارضة أو الّتي هي في منزلة بين المنزلتين ، غير راضية عن منحى وخيار التوافق بين الحزبين الأغلبيين و تعتبر كل محاولات «تشريكها» في الحكم ،مناورات تهدف إلى توريطها في تحمّل تبعات الخيارات المتبعة أو تحييدها. و ما زاد الطين بلّة أن بعض القطاعات وبعض الفئات الإجتماعية في تحرّك مستمر ، دون أن يحصل تغيّر في قدرات الدولة على إيجاد الحلول العالقة ، سواء تعلق الأمر بالتشغيل أو بالمطلبية المتزايدة ، و هو ما يجعل الحكومة «تقفز» من شأن إلى آخر ، وتلجأ إلى الإعلان عن حلول اضطرارية تعرف مسبقا أنها غير قادرة على تحقيقها ، فتختار التأجيل على أمل نزول منّة من السماء ، و الجدير بالملاحظة أن هذا التمشي ليس خاصّا بالشاهد بل كان موقف أغلب الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2011.

مع كل هذا تظهر أحيانا صعوبات في التعايش بين بعض القطاعات و المؤسسات و نشأ عن ذلك توتّر و ردود أفعال و كان ذلك في القضاء والأمن و الأطباء و المحاماة و الأساتذة الجامعيين وهيئة الحقيقة والكرامة ، كما أدت بعض التحركات والإحتجاجات إلى إتخاذ مواقف معطلة للمرفق العام أو لبعض المنشآت ، و هو ما يجبر الحكومة ومؤسسات الدولة على التعاطي مع هذا الواقع، الّتي لا تملك أحيانا مفاتيح الحل فيه.

هذا ما يحصل ،و لا نحبّذ القول بأن هذا الأمر طبيعي في ديمقراطية ناشئة ، كما لا نحبّذ تحميل المسؤولية لهياكل الدولة فقط ، كما لا يمكن القبول بدولة متخلّية عن دورها و تتعامل مع الأحداث وكأنها غير معنية ، بل نستغرب من مواقف بعض المسؤولين في الائتلاف الحاكم يتباكون مع الباكين و نسمعهم يستنكرون ويستغربون و ينتقدون أداءهم ، وكأنهم خارج نطاق السلطة الّتي يمسكون و يتمسكون بها .

لذلك لا مفر من القول أن الأوضاع غير عادية ويجب ألاّ تتواصل على نفس المنوال. و لا مفرّ أيضا من القول بان أسباب ذلك تكمن في غياب الإرادة الفاعلة و الجادة ، في مجابهة التجليات السلبية في ممارسة السلطة ،و الركون إلى الحلول الوسطية والظرفية وإلى الترضيات و«التوافق المغشوش» وإعمال قواعد تقاسم النفوذ ، و عدم تطبيق القوانين و عدم الحرص على إقامة العدل ،و ضعف الحس الوطني و طغيان المصلحية الضيقة . وكل هذه الأسباب تشكّل عوامل تبدّد الثقة بين الحاكم والمحكوم و تفاقم ُ الغليان و تهدّد بعدم الاستقرار وتثير المخاوف من الانفجار.

المشاركة في هذا المقال