Print this page

على هامش خطاب رئيس الجمهورية في الذكرى 62 للاستقلال أين هي مكامن الأزمة في تونس ؟ وهل يكون إصلاح النظام الانتخابي بداية الحل ؟

جلّ التسريبات التي حصلت هذه الأيام الأخيرة كانت تفيد بأن خطاب رئيس الدولة في الذكرى 62 للاستقلال سيكون خطابا سياسيا هاما وأنه

سيتضمن جملة من المقترحات للدفع بوضع البلاد إلى الأمام خاصة أمام استفحال أزمة حوكمتها وتعثر منظومة الحكم بأسرها..

ثم إن هذا الخطاب يأتي بعد صراع أصبح قويا وعلنيا بين حكومة يوسف الشاهد والمركزية النقابية ومنظمة الأعراف وبعد اقتراح ما تبقى من الممضين على وثيقة قرطاج ضرورة التوافق على خارطة طريق اقتصادية واجتماعية تكون بوصلة الحكومة (هذه أو غيرها) للفترة المتبقية من العهدة الانتخابية أي الأشهر العشرين القادمة ..

كل هذا كان ينبئ بخطاب سياسي قوي يوضح موقف رئاسة الجمهورية من مجمل القضايا الهامة التي تتقاذف اليوم الساحة السياسية والإعلامية ..

أراد رئيس الدولة في خطابه أن يبرز المفارقة بين نظرة الأجانب إلى تونس (واخذ مثالا عن ذلك مقتطفات من رسائل التهنئة التي وجهت له بمناسبة ذكرى الاستقلال من رؤساء أمريكا وألمانيا وفرنسا) ونظرة التونسيين إلى أنفسهم كما تتجلى في عمليات سبر الآراء وفي وسائل الإعلام وفي شبكات التواصل الاجتماعي إذ يشعر %80 من التونسيين بالإحباط وذلك رغم إشادة العالم بما أنجزته تونس ولكن رئيس الدولة يدرك جيدا بأن إحباط التونسيين ليس ترفا فكريا أو نوعا من الدلال الطفولي انه ناجم عن تردي أوضاع حياتهم اليومية في جل الميادين إذا ما استثنينا حرية الإعلام والتعبير والتعددية السياسية والانتخابات الديمقراطية ولكن نعلم جميعا أن أعدادا متعاظمة من التونسيين لا تنظر دوما بعيون الرضا الى ما تعتبره «انفلاتات» الديمقراطية والصخب الإعلامي الذي يصاحبها ..

ولقد أكد رئيس الدولة بصفة تكاد تكون مباشرة تفهمه لحالة الإحباط الجماعية هذه خاصة عندما نقارن وضع البلاد الاقتصادي والاجتماعي قبل الثورة وبعدها .. وإذا ما أصيب الباجي قائد السبسي نفسه بصداع في الرأس عند لقائه بمحافظ البنك المركزي نظرا لخطورة أوضاعنا المالية فكيف بعموم التونسيين ؟ !

كيف تكون بداية الحل ؟ هل يكون ذلك بتغيير حكومة الشاهد أو بضخ دماء جديدة فيها كما تطالب بذلك المنظمتان الاجتماعيتان : اتحاد الشغل واتحاد الأعراف ؟

رئيس الدولة يعترف بالدور الأساسي لهاتين المنظمتين ولكنه لا يذكر كلمة واحدة حول الأزمة الأخيرة ولا يعتبر أن اللقاءات الجديدة للممضين على وثيقة قرطاج قد تأتي بالجديد بل هي لا تكاد تبعد كثيرا عن «حلّ الصرّة تلقى خيط» أي أنها لن تأتي بالجديد الذي تنتظره هاتان المنظمتان .وهل تعود أزمة الحكم الى أزمة نظام الحكم وتشتيت السلط بين مستويات مختلفة من الهيئات والمؤسسات بما أضعف قدرة الدولة على إنفاذ القانون والانجاز الفعلي لتعهداتها ؟

الواضح أن هذا هو تحليل رئيس الجمهورية ولكنه أكد مجددا بأنه لن يمس من النظام السياسي الوارد في الدستور فهو قد انتخب على أساسه وسوف يحترمه ويدعو لاحترامه طيلة عهدته الانتخابية ولكن تشتت السلطة قد يُصلح بما لا يمس من نص وروح الدستور وهو النظام الانتخابي الحالي القائم على النسبية واكبر البقايا في قائمات بحجم الولايات إلا في حالات معدودات حيث نقسم الولاية (تونس وصفاقس ونابل) إلى دائرتين انتخابيتين ..

اعتبر رئيس الدولة أن المقترح الذي تقدم به الأساتذة الصادق بلعيد وحسين الديماسي والأمين محفوظ وهيكل بن محفوظ (انظر نص العريضة في «المغرب» بتاريخ 18 مارس 2018) والقاضي بتعويض نظامنا الانتخابي بنظام يقوم على الانتخاب على الأفراد في دورتين هو الحل الأمثل لازمة منظومة الحكم إذ سيخرج البلاد من حالة اللااستقرار أو التوافق المغشوش إلى وضع يسمح ببروز أغلبية واضحة وبتحمل كل نائب منتخب مسؤوليته كاملة أمام مواطني دائرته بداية وكل البلاد ثانية ..

الواضح هنا أننا لسنا أمام مسألة تقنية بل أمام تقييم سياسي جوهري : هل أن أزمة البلاد تعود إلى نظام انتخابي لا يعطي أغلبية واضحة للفائز أم أن أزمة البلاد هي أعمق من هذا بكثير وتعود إلى أزمة العيش المشترك وتذرر السلطة والقرار لا بفعل نظام انتخابي ولكن بفعل استقواء «قبائل» تونس المعاصرة على الدولة ؟!..

ويكفي أن نسال أنفسنا جميعا : لو كان النداء أو النهضة هو الحزب الأول وبأغلبية مريحة في البرلمان هل كان بإمكان احدهما أن يصنع في معضلة الحوض المنجمي على سبيل المثال أو المؤسسات العمومية أفضل مما حصل إلى حدّ الآن ؟

نعتقد أن الجواب بنعم هو نوع من المغامرة النظرية التي لا يبررها أي معطى واقعي..

هنالك فكرة صحيحة تتمثل في ضعف الدولة وفي ضعف قدرتها على انفاذ القانون وبالتالي على القيام بالإصلاحات الضرورية وبتعجيل الدورة التنموية لا نعتقد أن هنالك خلافا جديا حول هذا التشخيص ..الخلاف يبدأ مع من يعتقد أن تجميع السلطات – بصفة ديمقراطية بالطبع – إما في نظام رئاسي أو في نظام نصف برلماني نصف رئاسي كحالنا اليوم ولكن مع برلمان ذي أغلبية واضحة ومن لون واحد هو الحلّ ..

هذا التشخيص هو الذي يطرح إشكالا لأنه يعالج أزمة عميقة أخلاقية ووجودية بحل ظاهره تقني ولا احد يعلم اليوم كيف سيكون تأثيره السياسي ..

لننطلق من التجربة التونسية.
لو طبقنا نظام الاقتراع على الأفراد وخاصة لو قلصنا من عدد النواب من 217 إلى حوالي النصف في الانتخابات التشريعية لسنة 2014 لكان مجلس نواب الشعب مكونا فقط من أغلبية ندائية ومن أقلية نهضوية فقط لا غير ..هل هذا هو الحل المنشود ؟ !

سيقول أصحاب فكرة الاقتراع على الأشخاص بأن نوعية الاقتراع هذه ستغير من الممارسة السياسية رأسا على عقب وستجبر الأحزاب الصغيرة على تحالفات واسعة وقد تكون هي المستفيدة الأبرز من هذا النظام الجديد كما أن الترشح الفردي سيسمح بانتقاء أفضل الخبرات والكفاءات ..

كلام جميل ومستقيم ولكنه حالم إلى حد ما لان الآلات الحزبية الضخمة هي التي ستتحكم في كل نظام انتخابي وتونس ليست وضعا استثنائيا ..ففرنسا التي تطبق هذا النظام منذ أكثر من نصف قرن تثبت بصفة قطعية أن الاقتراع على الأفراد لا يناسب إلا الأحزاب الكبيرة فقط لا غير وان الولوج للبرلمان يصبح عملية شبه مستحلية لكل حزب لا يتحالف مع احد القطبين الكبيرين ..

يعني لو حاولنا تطبيق نظام الاقتراع هذا على تونس ووفق التوازنات السياسية الحالية سوف نقصي ضرورة التعددية الحزبية من البرلمان ونجعل منه فقط برلمانا ندائيا نهضويا. فهل ستخرج الدولة ومؤسساتها أقوى بهذه الطريقة ؟

أو ليس من دور البرلمان أن يكون الإطار الأساسي للحياة الديمقراطية التعددية؟ وهل سيكون من المفيد لتونس أن تصبح التعددية الحزبية والفكرية والسياسية خارج قبة البرلمان ؟

ثم أليس من المجازفة الاعتقاد بأن تغييرا جذريا في نظام الاقتراع سيصاحب ضرورة بتغيير جذري في دور الأحزاب وقدرتها التعبوية ؟..

أسئلة كثيرة لا ندعي امتلاك الإجابة عنها ولكن يقيننا بأن لا أحد بإمكانه قبول هذا الاحتمال القوي : برلمان بلونين فقط فحتى النداء والنهضة سيكونان متضررين من هذه الوضعية ولن يعطي هذا قدرة إضافية لا للسلطة التنفيذية ولا للسلطة التشريعية بل سيزيد في وهنهما وقد تزداد مع درجة الاحتقان

السياسي في البلاد..

هل يعني هذا أن نظامنا الانتخابي الحالي مثالي ؟ لا وألف لا فالمطلوب من النظام الانتخابي في تونس اليوم هو توفير مسألتين أساسيتين :

- الاستجابة لإرادة الناخبين بتمكين الحزب أو الائتلاف الفائز من القدرة على الحكم

- رعاية وتأطير التعددية السياسية بتمكين أهم العائلات الفكرية والسياسية من الوجود البرلماني

ويمكن أن نضيف إلى هذين العنصرين بعدا ثالثا يتمثل في القطع مع «الكسل» السياسي للأحزاب التي يقال عنها بأنها صغيرة إذ ينبغي أن يتناسب الحصول على مقعد في مجلس نواب الشعب مع حدّ أدنى من الوزن الانتخابي وإلاّ لكانت الانتخابات عملية عبثية ..

فلو حافظنا على نفس النظام الانتخابي للتشريعية واضفنا إليه فقط مسألة العتبة لتغيرت أمور كثيرة ..

لو طبقنا عتبة بـ%3 فقط في انتخابات 2014 لانتقل نداء تونس الحزب الفائز فيها من كتلة نيابية بـ86 مقعدا الى 103 مقاعد أي لأصبح فقط على بعد 6 مقاعد للحصول على الأغلبية المطلقة وليسر هذا بحثه عن التحالفات .. كما أن بعض الأحزاب الصغيرة ستفقد نوابها كلهم (كالتيار الديمقراطي ) ولكن

بعض الأحزاب الأخرى (كحركة الشعب) ستحافظ على كل نوابها لأنهم نجحوا في دوائرهم الانتخابية بنسب محترمة من أصوات الناخبين ..

لقد أقحمنا العتبة (بـ%3) في الانتخابات البلدية مع الإبقاء على الاقتراع على القائمات وفق نظام نسبي وبالاعتماد على اكبر البقايا أي تماما كنظام الانتخابات التشريعية ما عدى العتبة ..

لننتظر يوم 6 ماي لنرى ماهو مفعول هذه العتبة وهل أفرزت مجالس بلدية ذات أغلبية واضحة ام لا ثم لنقيم هذه التجربة قصد التفكير في تعميمها على التشريعية ..

قد يكون هذا التمشي أكثر عملية واقل إثارة للمشاكل من التفكير في تغيير جذري لقواعد اللعبة سنة قبل الانتخابات القادمة ..

على كل حال الحوار مفتوح وكل نقاش عميق وهادئ لا يمكن إلا أن يكون مفيدا للبلاد .

المشاركة في هذا المقال