بين الدوافع القيمية والضرورات الاجتماعية والصعوبات التقنية: المساواة في الميراث : الآن الآن وليس غدا !!

,تدعو اليوم عشرات الجمعيات إلى مسيرة وطنية تنطلق من باب سعدون

في حدود الساعة الثانية بعد الزوال باتجاه مجلس نواب الشعب بباردو رافعة جملة من الشعارات تتمحور كلّها حول ضرورة الإقرار النهائي والكامل للمساواة في الميراث بين الجنسين باعتبارها حقا دستوريا ومطلبا ديمقراطيا وضرورة اجتماعية ..وتأتي هذه المسيرة بعد حوالي سبعة أشهر من خطاب رئيس الجمهورية يوم 13 أوت الماضي والذي أعلن فيه بكل وضوح عن ضرورة تطوير التشريعات التونسية حتى تتلاءم مع مقتضيات الدستور في صون الحريات الفردية وفي تحقيق المساواة التامة بين الجنسين وقد خص آنذاك الباجي قائد السبسي مسالة المساواة في الميراث بالجزء الأكبر والأهم في خطابه داعيا الى اقرارها مع مراعاة كوننا نشرع لدولة مدنية في مجتمع غالبيته الكبرى من المسلمين..
ولقد بعث رئيس الجمهورية للغرض لجنة ترأسها الحقوقية والنائبة الأستاذة بشرى بلحاج حميدة قصد تقديم مقترحات عملية في بابي الحريات الفردية والمساواة حتى يتم إقحامها في مبادرة تشريعية رئاسية .وقد ارتأت اللجنة أن تؤخر تقديم تقريرها إلى ما بعد الانتخابات البلدية حتى لا تكون عرضة لتجاذب سياسي قوي خلال الحملة الانتخابية ..
نعود الآن للأساسي والذي تناولناه في أكثر من مناسبة :

المساواة ،بطبعها ،لا يمكن أن تكون إلا كلّية وشاملة وكل انتقاص منها مهما كان جزئيا يسقطنا ،ضرورة ، في اللامساواة ..

صحيح أن الوضع القانوني للمرأة التونسية ،منذ مجلة الأحوال الشخصية التي تم إصدارها في 13 أوت 1956 ،لا يضاهيه وضع في الدول العربية وفي جلّ الدول الإسلامية ، ولكن مجلة الأحول الشخصية على ثوريتها لم تلغ كل أصناف التمييز ضد المرأة،و لقد تم إدخال بعض التحسينات على هذه المجلة خلال العقود الستة الأخيرة ولكن لم يجرؤ أحد ،إلى اليوم، على مراجعة جوهر التمييز ضدّ المرأة - وعلامته الأبرز هي اللامساواة في الميراث – باعتباره مرتبطا بنصوص قرآنية محكمة كما يقول الفقهاء أي نصوص لا تحتمل تأويلا آخر غير ظاهر لفظها..

وهذه الحجة الدينية ،أو التي يراد لها أن تكون دينية ،هي حجة ضعيفة فلسفيا وفقهيا وتاريخيا إلا إذا ما اعتبرنا بأن الفهم الحرفي السلفي المتشدد للنصوص الدينية هو وحده الفهم الصحيح للإسلام ولكن في هذه الحالة ينبغي أن نذهب إلى النهاية وأن نطالب بإلغاء كل التشريعات الجزائية والمدنية المخالفة لظاهر النصوص وهي كثيرة ومشهورة من ذلك قطع يد السارق وجلد أو رجم الزاني الخ .. والنزاهة والتناسق يفترضان بألا نقف عند حدّ نصوص الأحكام الواردة في القرآن والسنة بل وأن نفعل كما فعل الفقهاء القدامى ، أي أن تكون بقية الأحكام المنظمة لسائر مجالات الحياة مستلهمة من الفلسفة التشريعية والعقابية للأحكام الأصلية الواردة في القرآن والسنة النبوية كما أقر الفقهاء أحكاما تعزيرية بالجلد دون مائة جلدة أو كل الأحكام التمييزية الأخرى ضدّ غير المسلمين أو ملك اليمين...

إذن لا جدية ، في نظرنا ، لكل من يريد تعطيل المساواة التامة بين المواطنين والمواطنات بالاعتماد على الترسانة الفقهية أو الشرعية ، دون أن يعني هذا ازدراء للدين أو لهذا الموروث الفقهي والتشريعي ، بل علينا أن نتعامل معه كتراث شكل جزءا هاما من تاريخنا ومن هويتنا الحضارية ولكننا نبني حاضرنا ومستقبلنا بما نراه صالحا لزماننا ولأجيالنا القادمة ..
فالحق واضح هنا : هنالك من يؤمن بالمساواة التامة والكاملة بين البشر بغض النظر عن فوارق اللون والجندر والدين والثقافة وهنالك من يبرر بعض أشكال التمييز – في كل الثقافات والحضارات – بدعوى الخصوصية. والدستور التونسي قد حسم هذا الجدل عندما أقرّ في فصله الثاني بأن «تونس دولة مدنية ،تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون» قبل أن يضيف بأنه «لا يجوز تعديل هذا الفصل» وفي هذا شرح وتأويل لما قد يُشْكـِلُ في قراءة الفصل الأول..

ثم افتتح الدستور بابه الثاني (الحقوق والحريات ) بالفصل 21 الذي يضبط هذه المسألة بشكل قطعي وواضح «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز .. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم».
ولمن لم يطمئن قلبه بعد نضيف الفصل 46 والذي ينص على «تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة (كالحقوق الواردة في مجلة الأحوال الشخصية) وتعمل على دعمها وتطويرها (والدعم والتطوير لا يكون إلا باتجاه المزيد من المكتسبات أي المساواة).
هذه هي النصوص المؤسسة لقواعد عيشنا المشترك لا تأويلات هذا الفريق أو ذاك لنصوص دينية ينبغي ألا تكون محلّ جدال وصراع بيننا ..

نحن لسنا أمام مقتضيات قيمية وفلسفية وحقوقية فقط – على الأهمية القصوى لهذه الأبعاد – ولكن نحن أيضا أمام مظلمة اجتماعية متوارثة عبر أجيال وقرون المتضرر الأبرز فيها هنا النساء ضعيفات أو فاقدات السند العائلي والاجتماعي ..
وعلى عكس ما يروج في أوساط عدة فالمساواة في الميراث ليست تقليعة يراد منها إرضاء الدوائر الغربية أو نرجسية البورجوازية المثقفة .المساواة في الميراث هي أحد مداخل تمكين نساء الفئات الشعبية وخاصة في الريف حيث تعمل المرأة طيلة حياتها وتحرم ، في الأغلب الأعم ، حتى من نصيبها المقرر في الميراث خاصة عندما يكون عقارا تحت شعار : عدم إدخال الغريب (زوج الأخت) في أرض الآباء والأجداد !!

يكفي أن نعلم أن %4 فقط من مجموع مالكي العقارات الفلاحية هم من النساء لكي ندرك مدى الحيف الذي يعيشه نصف مجتمعنا. يحصل ذلك في تونس وبعد أكثر من ستين سنة بعد صدور مجلة الأحوال الشخصية ..
وكم من امرأة اشتغلت طوال حياتها وأنفقت من عرقها وكدها على منزل متواضع يسجل في الأغلب الأعمّ باسم زوجها ثم تتوفاه المنية وتجد نفسها خارج البيت العائلي لأن أحد أبنائها قرر بيعه ..

تقول إحصائيات التعداد السكني لسنة 2014 أن ربع التونسيين الذين تجاوزوا الستين (350800 نسمة) قد فقدوا قرينهم وان النساء يمثلن %88 من هذه الشريحة أي انه لدينا أكثر من ربع مليون امرأة (273.800 تحديدا) تجاوزت الستين سنة وفقدت قرينها ومعه بالنسبة لأغلبهن الفضاء الاجتماعي والمادي الذي كانت تعيش فيه ..
إنها مأساة وإهانة ما بعدها إهانة عندما تجبر المرأة المسنة على مغادرة البيت الذي أسهمت في بنائه ورعايته وتأثيثه بحجة قسمة التركة..

انه من واجب المشرّع حماية هذه الشريحة من المواطنات وأحيانا من المواطنين كذلك وقد يكون ذلك بسن قانون يرجئ قسمة الميراث (ان قلّ نصيب القرين المتبقي على قيد الحياة على قيمة المنزل العائلي ) إلى ما بعد وفاة القرين الثاني حتى نحفظ كرامة مئات الآلاف من التونسيات والتونسيين..
عندما نتحدث عن المساواة في الميراث يتبادر إلى ذهننا فقط المساواة بين الأبناء إناثا وذكورا وننسى أن هنالك تمييزا آخر لابد من إلغائه وهو ما يحصل للزوجة عندما يتوفى زوجها فلديها دائما نصف ما لديه لو كنّا في الصورة العكسية وهذا تمييز لابد من إلغائه.

في وضعية الأسرة التونسية الحالية عندما يتوفى احد (ذكرا كان أو انثنى) فله دوما (إلا في حالات نادرة تعد على اصابع اليد الواحدة) قرين أو أبوين أو أبناء أو إخوة ..وهنالك حالات تتساوى فيها المرأة مع الرجل كوضعية والدي المتوفى..
والفكرة التي ندفع بها هنا هو أن يتم إقرار المساواة بين الجنسين بحسب نفس مستوى القرابة وان تتم القطيعة مع ما بقي من نظام الكلالة أي وراثة الجذع الذكوري للمتوفى الذي ليس له أبناء فإبن الأخ يرث عمه بينما بنت الأخ لا ترث عمها، والمساواة تقتضي هنا كذلك أن ترث الفتاة تماما كالفتى عندما يكون لهما نفس مستوى القرابة.

نعود إلى المسألة الأبرز وهي وراثة القرين ..عندما تتوفى الزوجة يرث الزوج نصف التركة إن لم يكن لهم ابناء وربعها إن كان لهم أبناء أمّا الزوجة فترث الربع عندما لا يكون هنالك أبناء والثمن إن وجد الأبناء ..
ودون تعقيد الأمور تقنيا يمكن ان نقول بأن المساواة والعدالة يقتضيان أن ترث الزوجة تماما كزوجها اي اما النصف او الربع بحسب وجود الأبناء من عدمه ونبقي على السدس المفروض لوالدي المتوفى والبقية تقسّم سواسية بين الأبناء فان لم يكن هنالك أبناء فبين الإخوة دون الكلالة

الربع للزوجة ، في أسوإ الأحوال، يصبح كالربع المعطل اذ يسمح لها بالمحافظة الدنيا على حقوقها والأفضل ، حسب رأينا ، هو تأجيل قسمة التركة بعد وفاة القرين المتبقي على قيد الحياة لو قلّ نصيبه منها عن المنزل العائلي ، أما لو زاد فلا مانع إذن من القسمة ..
نحن نعتقد أن تونس جاهزة لهذه القفزة النوعية أخلاقيا وقيميا واجتماعيا فالمساواة هي لبّ التضامن والمواطنة ويبقى من دور النخب السياسية والفكرية والثقافية أن تقوم بدور بيداغوجي أساسي لتفسير هذه النقلة وأبعادها وتوافقها مع التدين العميق ومع الألفة والمحبة الأسرية والاجتماعية ..
المساواة حق وأمل كذلك ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115