تونس بين احتجاجات الجهات والقطاعات أزمة إمكانيات أم أزمة تصورات ؟ !

تعيش تونس منذ الثورة إلى اليوم على وقع الاحتجاجات المتعددة الأطراف والمتنوعة المطالب وقد اشتغلت

كل الحكومات المتعاقبة على «إطفاء» هذه «الحرائق» قدر الإمكان بالاستجابة لبعض المطالب وبتأجيل بعضها. ثم عندما تشتد الضغوط ترضخ الحكومة / الحكومات من جديد فتحدث شركات للبستنة والغراسة والبيئة وتنفق ما تيسر من المال العام عندما يتعطل الإنتاج في جهة ما أو قطاع ما علّها تعيد الأحوال إلى وضع شبه عادي ثم تجد نفسها أمام احتجاج ثان وثالث ورابع وتنفق ثم تتداين وتقرر تبعا لذلك ترفيعا في الضرائب فاحتجاجات جديدة فسلسلة اخرى من الاستجابات الظرفية .وفي المحصلة لم تتمكن أية حكومة من حلّ نهائي لهذه المعضلة ،بل وتراها أحيانا – كما الحال هذه الأيام – تلوذ بالصمت تاركة الشركات أو الوزارات المعنية في واجهة الأحداث في انتظار تطوراتها المحتملة وكالعادة نبدأ بالتأكيد بأن «الكاسة» فارغة سواء كانت «كاسة» الدولة بصفة عامة أو «كاسة» الشركات العمومية ولكن تعود الجميع على أن الدولة ترضخ في النهاية وتقرع في خبايا «الكاسة» ما تيسر من ملايين الدنانير في انتظار موجة جديدة من الاحتجاجات المهنية أو القطاعية أو الجهوية فوفد مفاوض فالوعد بحلول جذرية ثم التوقيع على حلول جلّها،وقتية فانجاز البعض والمماطلة في البعض الآخر ،وهكذا دواليك من احتجاج إلى آخر ..

والسؤال الذي لم نجد له جوابا نحن جميعنا: حكومات ونخبا ورأيا عاما ومحتجين : كيف الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تجعلنا نغرق يوما بعد آخر في إنفاق عمومي بلا جدوى دون سلم اجتماعية ودون خلق فعلي وجدي للثروة ؟ !
فهل نملك حلولا جدية لهذا الكمّ المهول من الطلبات والمطالب ؟

لا أحد يملك الإجابات العملية المقنعة ،إذ هنالك فرق شاسع بين ما يمكن أن نتصوره كحلول وبين ما يمكن لحكومة ما ،أيا كان حسن نواياها وحزمها وجديتها أن تطبقه في وضعية ما بل عادة ما يكون أصحاب القرار السياسي بين المطرقة والسندان فإن هم استجابوا لبعض هذه المطالب فسينتج عن ذلك مباشرة تفاقم مطالب بقية الجهات والقطاعات والمهن وإن هم رفضوا الرضوخ فسيجدون أنفسهم سريعا في حرب ضد كل الجهات والقطاعات ومهن المجتمع ..

هنالك معطى أول ثابت لا ريب فيه : النمو الذي يحققه اقتصادنا اليوم وكذلك في السنوات القادمة لن يسمح لوحده بالاستجابة لكل هذه المطالب وهو لن يمكننا من تخفيض مهمّ لنسبة البطالة أو من رفع ذي بال في القدرة الشرائية للأجراء ولسائر فئات المجتمع ،فالنمو لا يمكنه أن يكون إجابة ممكنة إلا متى كان مرتفعا (فوق %5 على اقل تقدير) ومستمرا على الأقل على امتداد عقد كامل..

ولكن لكي نصل إلى هذه المستويات المرتفعة من النمو لابدّ من إصلاح جذري لجلّ منظوماتنا الإدارية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية والتكوينية والاستثمارية ولابد من سياسات عمومية تنطلق من رؤية شاملة لكل هذه الإصلاحات معا حتى تكون الحلول الظرفية التي تقدمها منسجمة مع الأهداف المتوسطة المدى لا معيقة لها كما هو الحال الآن ..

ولكن حتى هذا لا يكفي إذ ينبغي أن تحصل قناعة عامة في البلاد بأننا لا نملك خيارا آخر ..
ولابد من الإقرار هنا بأننا مازلنا بعيدين إلى حدّ ما ذهنيا وفكريا عن رسم صورة موحدة لمستقبل مشترك ..

وهنا تلعب النخب ، كل النخب،دورها بما فيها نخب الاحتجاجات الاجتماعية ،فالنخبة ليست موقعا اجتماعيا أو ترسانة من الشهائد العلمية ،النخبة هي أولا وقبل كل شيء قيادة فكرية وسياسية وميدانية في المراكز وفي التخوم ،في النخب الكلاسيكية وفي النخب الجديدة الشبابية والمدنية أيضا ..
فالقناعة العامة المقصودة هي قناعة هذه النخب المتناحرة اليوم على ضرورة رسم طريق موصلة مشتركة لا تقوم على مسلمات عقائدية أو على رغبة انتصارية بل السبل الممكنة لنجاح وطني عام ..ولرقي اجتماعي لا تحرم منه جهة أو فئة أو مهنة ما..
ولكن لهذه القناعة العامة مقدمات ضرورية لا يمكننا دونها أن نتقدم ولو قيد أنملة ..

• الثروة التي يمكن أن ننتجها لا تكمن في الثروات الطبيعية الحالية للبلاد بل في كمّ العمل والجهد والإبداع الذي نملكه جميعا ..

• المؤسسة الاقتصادية العمومية أو الخاصة ليست «تكية» ولا مشروعا خيريا بل منظومة يحركها إمّا الربح أو الفاعلية (الخدمات العمومية ) فالثروة لا يخلقها إلا الربح والربح وحده .

• النجاح والتألق والتميّز ليس عيبا نعتذر عنه ولكن لا ينبغي أن يحصر في نفس الفئات والجهات بل لابدّ من خلقه في كل فئة ومهنة وجهة ولابدّ من إعادة تشغيل المصعد الاجتماعي في كل أبعاده بدءا من المدرسة وصولا إلى المكانة الاجتماعية المرموقة ..

• العدل بين الجهات والفئات وعموم التونسيين لا يكون إلا بمدرسة التألق والامتياز للعدد الأكبر من بناتنا وأبنائنا ..
نحن بحاجة إلى ثورة كوبرنيكية نغيّر بفضلها زاوية النظر بصفة جذرية.. فالمهم لا يكمن في البرامج والطرق البيداغوجية ..المهم هو فقط في بلوغ مكتسبات التلاميذ منذ السنة التحضيرية مستوى التألق الواسع.. من هنا نبدأ البناء ونعيد تأسيس المدرسة التونسية من تكوين المكونين وتقييمهم ومن حوكمة كل المنظومة التربوية ،وهذا هو الإصلاح الجوهري لتونس الغد والذي سيمتد على عقود ولكننا لم نبدأ إلى اليوم البداية الصحيحة لأننا لسنا متفقين على تشخيص حقيقة أزمة المدرسة التونسية..
ينبغي أن نجعل من العدل الاجتماعي ،والذي لا يعني المساواة الميكانيكية سياسات عمومية خالقة للقيمة المضافة العالية أي عنصرا أساسيا في خلق الثروة لا فقط في توزيعها كالاعتماد على سياسات عمومية قائمة على تمييز ايجابي فعلي بموجبه نخلق نقاط التميز المدرسي والعلمي والاقتصادي والثقافي في كل مناطق الجمهورية ..

• مشاريع ضخمة تغيّر وجه تونس وتحدث نقلة نوعية في مرافق الحياة من بنى تحتية ومدن جديدة ثقافية أو جامعية أو اقتصادية ولم لا عاصمة جديدة بإحدى معتمديات القيروان مثلا تكون على مفترق الطرق السيارة وقريبة من مطار النفيضة ومن بين هذه المدن الجديدة ما اقترحه الصديق مختار بوبكر حول بناء مدينة جديدة بقفصة لسكان الحوض المنجمي حتى نميز بين مقر العمل وبين فضاء سكني غير ملوث وبه المرافق العامة الضرورية والترفيهية على حدّ سواء..

• وعمدة هذه المقدمات واساسها هو انه لا سبيل لنهضة اجتماعية دون العمل الكمي والكيفي ودون تحسين الإنتاج والإنتاجية ودون المنافسة الدولية ودون تحرير كامل للمبادرة الاقتصادية وللخلق والابتكار ..
فالعمل ليس فقط ضروريا للنجاح الاقتصادي والاجتماعي بل هو أيضا اختيار مجتمعي ومراهنة على التفوق واحتفاء به وتشجيع الجميع على النجاح..
نريد أن نعتقد بأن هذه القناعة العامة المشتركة مازالت ممكنة وأنها أهم مليون مرة من المناكفات السياسية ومن استراتيجيات تسجيل النقاط على الخصوم..

اليوم نحن في مفترق طريق فعلي النجاح فيه مازال ممكنا ولكن الفشل كذلك يتربص بنا وبتجربتنا الديمقراطية الغضّة..

إن سياسة «نفسي نفسي لا ترحم من مات» لا تفيد أحدا بل لن ينجو منها احد ..اليوم لا وجود لإمكانية حقيقية ودائمة لنجاح فردي في بلادنا ما لم تنخرط في مشروع جماعي يؤمن النجاح للعدد الأكبر من مواطنينا ..
أزمة تونس اليوم ليست بالأساس في قلّة ذات اليد بل في فقدان حلم جماعي نؤسس فيه جميعا لديمقراطية مستقرة ذات رفاهية عالية وقودها الأساسي العمل والتألق ..
هذا الحلم مازال ممكنا ..امّا إن وئد فسنتحمل جميعا ذنوبه ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115