بعد استقالة: محافظ البنك المركزي في ثغرات الحوكمة العمومية

تتتالى هذه الأيام الأنباء السيئة عن بلادنا إذ وجدنا أنفسنا خلال شهرين فقط مصنفين في قائمتين سوداويتين لأهم شريك اقتصادي وسياسي لنا :

الاتحاد الأوروبي. فمن الجنّة الضريبية ،والتي أصبحنا فيها الآن في قائمة رمادية ،إلى قائمة الدول المعرضة لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب ..ولا يمكن لأي تونسي آيا كان موقفه وموقعه من منظومة الحكم ألا يشعر بنوع من المرارة والخيبة وأحيانا من عدم الفهم إذ الواضح – لدينا على الأقل – أنّنا لسنا جنّة ضريبية ولسنا كذلك ملاذا لغسل الأموال ولتمويل الإرهاب رغم اعترافنا بثغراتنا العديدة في هذه المجالات ندرك بعضها ويغيب عنا الكثير من تفاصيلها الهامة ..

ولكن إذا مرّت القائمة السوداء الأولى بسلام أدنى بعد أن خرجنا منها في غضون أسابيع قليلة فإن القائمة السوداء الثانية قد أحدثت رجّة في البلاد ونجم عنها ميلودراما تعرف تونس فقط أسرارها بإعلان رئاسة الحكومة اقتراحها إقالة محافظ البنك المركزي معتبرة إياه بصفة واضحة المسؤول الرئيسي عن هذا التصنيف الجديد ثم دفاع السيد الشاذلي العياري عن نفسه أمام لجنة المالية بمجلس نواب الشعب ورفضه لما اعتبره إساءة لشخصه والتحميل الظالم لهذه المسؤولية وأنّه قد نبّه الحكومة في مراسلات عديدة إلى ضرورة تطبيق حزمة من الإجراءات حتى تخرج تونس من هذه القائمة السوداء .. قبل أن يقرر تقديم استقالته إلى رئيس الحكومة مساء أمس منهيا بذلك هذه التراجيديا التونسية وما شابها من اتهامات متبادلة مباشرة ومبطنة بين مؤسسات الدولة ومحاولة كل طرف إلصاق الخطيئة الأصلية بالطرف الآخر ..

قد نجد لكل طرف بعض الأعذار ..

تعتقد الحكومة أن محافظ البنك المركزي ولجنة التحاليل المالية التي يرأسها المحافظ لم يبلغاها بخطورة المسألة في الإبان وأن المحافظ قد نفى في كل مراسلاته تصنيف تونس في القائمة السوداء بل وادعى بأن هذا التصنيف ،في البداية ،كان خطأ تقنيا قامت به مجموعة العمل المالية (GAFI) على موقعها الرسمي ممّا أضاع على البلاد أسابيع ثمينة مضت في الانكار في حين ان الاشعار المبكر كان يسمح للدولة التونسية بتلافي المحظور..

ودون الدخول في أسرار الآلهة يمكننا بأن نؤكد أن هذا اللوم قائم على حجج قوية ويكفي أن نقرأ البيان الذي نشرته لجنة التحاليل المالية منذ أسابيع قليلة والموجود على موقع البنك المركزي والذي عنونته كالتالي «مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشيد بتقدم تونس في مجال مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب» ..
نحن فعلا أمام حالة إنكارية وأمام تعنت من لجنة التحاليل المالية تنم إما عن جهل بحقيقة قرارات مجموعة العمل المالية أو عن محاولة تزييف متعمدة أو غير مقصودة للمخاطر التي تهدد البلاد جرّاء هذا التصنيف وفي كلتا الحالتين نحن أمام خلل خطير في إحدى أهم مؤسسات الدولة وهذا الخلل يتحمل مسؤوليته محافظ البنك المركزي بصفته رئيسا لهذه اللجنة حتى وإن لم يكن شخصيا المنتج له إذ الأرجح أن المحافظ وقع بدوره ضحية للتقارير المجانبة للحقيقة التي أعدتها لجنة التحاليل المالية..

ولكن الأساسي يتجاوز هذا الخلل ، على خطورته، لأنه يضعنا أمام حوكمة فاشلة.. فلجنة التحليل المالية متكونة من تسعة أعضاء بالإضافة إلى محافظ البنك المركزي وفيها قاض من الرتبة الثالثة وخبراء من وزارة الداخلية ومن الديوانة ومن هيئة السوق المالية ومن وزارة المواصلات ومن اللجنة العامة للتأمين وخبير في مجال مكافحة المخالفات المالية ومن الجمعية المهنية للبنوك ومن هيئة مكافحة الفساد، وقرارات هذه اللجنة تؤكد بأغلبية الثلثين أي أن أجهزة أساسية في الدولة وفي المجتمع المدني على علم – نظريا على الأقل – بكل شاردة وواردة. وهذه اللجنة باعتبارها المخاطب الوحيد لمجموعة العمل المالية لا يمكنها ألاّ تكون على علم بمختلف التطورات الحاصلة منذ سنة على الأقل ، فلم لم تدق ناقوس الخطر بما فيه الكفاية وكيف لم يعلم مختلف هؤلاء الخبراء المعيّنين من قبل مؤسسات أساسية في الدولة من يعودون إليه بالنظر للفت نظرهم إلى هذا الأمر الجلل ؟
هذا ما لا يمكننا فهمه ولا نعتقد أن طلب إقالة محافظ البنك المركزي أو استقالته الحاصلة يوم أمس ستحل المشكلة..

إننا أمام أجهزة لا تتقاسم المعلومات ولا تتقاسم التحاليل وليست لديها القدرة على استباق الأزمات ولا على إدارتها كذلك ، تماما كما حصل لنا مع القائمة السوداء للدول غير المتعاونة ضريبيا وهنا لم نطالب برأس احد ومرت الأزمة كمرور النار على جسم إبراهيم ..
تبدو الدولة التونسية في مثل هذه الحالات كالسيارة التي تسير في ظلمات الليل دون أضواء كاشفة ودون القدرة على تقدير حقيقة المخاطر المحدقة بها ..

الإشكال في بلادنا اننا لم نعد نمتلك طينة المسؤولين الكبار القادرين على الاستشراف وعلى تحمل المسؤولية سلبا وإيجابا واننا لم نتمكن من تعويض بعض المسؤولين الأفذاذ – وكانوا في الحقيقة قلّة في تاريخ تونس – بحوكمة رشيدة تقوم على التضامن الايجابي بين كل هياكل الدولة بتبادل المعلومات وبالتفكير الجماعي وباتخاذ القرارات الاستباقية المناسبة ..
كما تبين هذه الأزمات المتتالية عدم إدراكنا لحقيقة العالم المحيط بنا وموازين القوة فيه وطريقة اتخاذه للقرارات التي تؤثر علينا فترانا نسابق الزمن في الوقت البديل وفي الساعة الخامسة والعشرين حيث لم يعد يجدي الجهد والاجتهاد نفعا يذكر . اليوم غادر الشاذلي العياري البنك المركزي ولكن هل غادر هذا الخلل الهيكلي حوكمة الدولة التونسية ؟
كلّ ما نتمناه هو أن نستفيد من أخطائنا وألاّ نمعن في تكرارها ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115