ستتجاوز نسبته %70 من الناتج الاجمالي المحلي هذه السنة: كيف نعالج تفاقم التداين العمومي

أزمة ،أو أزمات ،المالية العمومية أمامنا وليست خلفنا ،ولعلّ المظهر الأكثر وضوحا فيها

هو تفاقم تداين الدولة الخارجي وتجاوزه لكل الخطوط الحمراء ..

يعلم الجميع أنّنا انتقلنا خلال سبع سنوات من نسبة مديونية في حدود %40 إلى %70 في السنة الفارطة ،وهذه النسبة مرشحة حسب التوقعات الرسمية ،للارتفاع قليلا هذه السنة وهي لن تنزل دون عتبة %70 - دوما حسب التوقعات الرسمية - إلا في سنة 2020..

ولكن المعطيات الموضوعية المتوفرة لدينا اليوم تجعلنا نشك كثيرا في هذه القدرة على التحكم في نسبة المديونية لأن الحكومة أسست هذه التوقعات الوردية على فرضيات مثالية منها تحقيقنا لنسب نمو تصاعدية غير واقعية بالمرّة : %3 في 2018 و%4 في 2019 و%5 في 2020. والمعلوم أن تطور النمو يوفر موارد جبائية إضافية للدولة وبالتالي يقلص من حاجتها إلى التداين الخارجي كما أن الفرضيات التي أسسنا عليها التقليص النسبي من التداين الخارجي يقوم بعضها على عناصر لا نتحكم فيها وبالأساس أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية ، ويكفي أن نذكر بأن الحكومة التونسية قد راجعت تقديراتها الأولية في سنة 2017 واقترضت أكثر من ملياري دينار إضافية لتغطية عجز موازنتها ..أي أن هذا العجز الإضافي قد رفع لوحده أكثر من نقطتين في نسبة مديونيتنا العمومية ..هذا دون الحديث عن الانزلاق المذهل للدينار خلال النصف الثاني من السنة الماضية والذي كلفنا بدوره عدة نقاط إضافية في نسبة المديونية ..

والإشكال في تونس ليس في نسبة التداين العمومي في حدّ ذاته بل في الارتفاع المهول في خدمة الدين (أي ما تدفعه الدولة سنويا من أصل الدين ومن فوائده) والذي بدأ يقارب بداية من 2017 حاجياتها من الاقتراض أي وكأننا أصبحنا نقترض بالأساس لنسدد ديوننا ليس إلا..
والخروج على الأسواق العالمية لاقتراض مليار دولار (حوالي 2.5 مليار دينار تونسي ) سوف يزيد في تعميق هذه الوضعية ولكن لا ينبغي أن نغالط أنفسنا : نحن لا نملك حلاّ آخر سوى التداين على المدى القصير وإلا لعجزت الدولة وبصفة فورية عن الإيفاء بتعهداتها الداخلية والخارجية ..
هنالك مسألتان لا فكاك منهما على المدى القصير وهما ضرورة تسديد ديوننا الخارجية في مواقيتها حتى لا تفقد الدولة التونسية مصداقيتها كما أنّنا مضطرون للتداين الخارجي حتى لا نتسبب في إيقاف عجلة الاقتصاد وعجز الدولة عن الإيفاء بتعهداتها ..
المشكلة ليست في سنتي 2018 و2019 المشكلة هي كيف الخروج بصفة جدية من دوامة التداين دون التلويح بقرارات أو بمقترحات لا يقدر احد على انجازها..

لا يمكن أن نفهم تنديد بعض أحزاب المعارضة بتفاقم المديونية في حين أنها تطالب دائما بمزيد من الإنفاق العمومي وبمزيد من الانتدابات في الوظيفة العمومية وبمزيد من دعم الفئات الاجتماعية الهشة ..

نحن نحتاج ،قدر الإمكان ،لإخراج موضوع تفاقم التداين من السجال السياسي اليومي ومن تسجيل النقاط لأنه لا يمكن لحكومة اليوم مهما كان لونها واختياراتها الاقتصادية والاجتماعية إلاّ أن تتداين وبهذه الطريقة ولكن الاشكال الأساسي هو في الحلول متوسطة المدى والتي تسمح لنا بالتحكم في المديونية بصرف النظر عن الفرضيات المتفائلة للنمو ..
يبدو لنا أن تونس تحتاج لأمرين اثنين وفي نفس الوقت تقريبا :

- التفويت الجزئي أو الكلي في بعض المؤسسات العمومية قصد إيجاد سيولة مالية هامة (حوالي 7 أو 8 مليار دينار ) نخصص جزءا منها لشراء الديون التي كانت شروط إبرامها سيئة (مدة سداد قصيرة أو نسب فائدة مرتفعة) وتخصيص الجزء الآخر لتسريع نسق النمو في بعض الجهات الداخلية..
- التقليص المتواصل والتدريجي للإنفاق العمومي دون المساس بالاستثمار العمومي ونقصد هنا بالأساس الدعم الذي يذهب جزء هام منه للفئات الاجتماعية التي لا تستحقه وتسريع نسق إصلاح الوظيفة العمومية بعدم تعويض كل الخارجين إلى التقاعد وتيسير شروط المغادرة الطوعية ..
دون هذين الأمرين معا وبصفة عاجلة لا نرى طريقا آخر يسمح بالتحكم الجدي في مديونية الدولة وهذا بالطبع دون الحديث عن مديونية المؤسسات العمومية التي تعود في نهاية الأمر إلى دافعي الضرائب أي إلى المديونية العمومية بمفهومها الواسع لا الضيق كما تعمد إليه تونس اليوم.

سوف يقول بعضهم بأن الأموال والعملة الأجنبية موجودة بالسوق الموازية وما علينا إلا أن «نغرف» منها ..ولكن يعلم الجميع أن هنالك بعض الملائكية والسذاجة في هذا الطرح فجزء هام ممّا نسميه الاقتصاد الموازي هو نشاطات يجرمها القانون ولا يمكن بالمرة إدماجها في الاقتصاد الحقيقي كما أن ادماج ما يمكن إدماجه منها في الاقتصاد المنظم يتطلب جهدا متواصلا ولن يؤتي أكله إلا بعد بضع سنوات بل ولعله يستوجب قرارات جريئة في البداية تقلص من موارد الدولة على المدى القصير ونقصد بذلك خفض مستوى الضرائب على النشاط الاقتصادي وتيسير الانتصاب في القطاع الحقيقي ولو تقلصت نسبيا الموارد الجبائية المباشرة شيئا ما ..

وهذا التقليص في نسبة الضريبة على الشركات الاقتصادية سوف نضطر إليه اضطرارا في إطار التزاماتنا مع الاتحاد الأوروبي لتقليص الهوة بين مستوى الضريبة على الشركات المصدرة كليا (%10) والضريبة على الشركات التي تعمل على السوق الداخلية (%25) والواضح أنّنا لا يمكن أن نرفع الجميع إلى %25 بل الحكمة تقتضي بأن تكون الضريبة على الشركات في تونس ما بين %15 و%20 فقط وهذا الإجراء سيسمح بدوره بجذب جزء من الاقتصاد غير المنظم كذلك ..

ومعلوم أيضا أن نسبة مديونيتنا تتحدد بقيمة صرف الدينار مقارنة بالعملات الأساسية اي اليورو والدولار وان كل انزلاق جديد لقيمة الدينار ستترجم آليا بازدياد نسبة مديونيتنا العمومية ..

يبدو الحل سهلا : وقف الانزلاق كما وعد بذلك محافظ البنك المركزي ثم محاولة الرجوع إلى سعر صرف أفضل من الحالي ولكن نعلم جيّدا أن هذا يتطلب تعافيا كبيرا لاقتصادنا واكتساح منتوجاتنا لأسواق جديدة والتحكم في وارداتنا وهذا لن يحصل على الأفضل قبل بعض سنوات ولكنه من الخطط الرئيسية التي ينبغي الاشتغال عليها لتحقيق شروط الإقلاع الاقتصادي والتقليص من مديونيتنا الخارجية..

والتقليص من حاجيات الدولة للاقتراض ضروري أيضا لتمويل الاقتصاد الوطني اذ تعمل الدولة حاليا على إفقار السوق المالية الداخلية من جل مواردها لتغطي بها حاجياتها للاقتراض الداخلي وهذا ما يجعل نظامنا البنكي لا يقوم بدوره الطبيعي في تمويل الاستثمار المحلي إذ تحول جلّ نشاطه إلى مصرف لاقراض الدولة لا لتنشيط الاقتصاد..
خلاصة القول أنّنا ندفع اليوم فاتورة سياسات متواترة أقدمت عليها كل الحكومات – بما فيها حكومة الشاهد - من الإنفاق الاجتماعي دون مردودية اقتصادية وعلينا أن نختار إمّا المواصلة في هذا النهج والغرق جميعا بعد ذلك أو القطع معه بالتقليص الفعلي والجدي من الإنفاق العمومي وتوفير موارد بديلة استثنائية عبر الخوصصة الكلية أو الجزئية وتنشيط

وتسريع وتيرة نمو الاقتصاد الحقيقي المبني على نسيج من المؤسسات الصغرى والمتوسطة مع سياسات تصديرية هجومية ولكن دون القدرة على تحفيزها جبائيا كما كنا نفعل ذلك في الماضي ولكن بتحفيز من صنف خاص عندما نعصر الإدارة ونضغط على آجال الانتظار..
بالطبع لن يجد الحل الثاني أنصارا كثرا لأنه لا يلهب المشاعر ولا يسهم في ربح الانتخابات وهنا سيبرز الفرق واضحا بين محترفي السياسة وبائعي الأوهام وبين السياسيين الجديين الذين لا يضحون بالغد من اجل تلبية رغبات اليوم ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115