المساواة في الميراث: حتى لا نضيّع فرصة تاريخية

مرت أكثر من خمسة أشهر على المبادرة الرئاسية التي عقبت خطاب الباجي قائد السبسي في عيد المرأة يوم 13 أوت

حيث أعلن عن تشكيل لجنة تعنى بإعداد مقترحات لإقرار مبدإ المساواة في الميراث ولترسيخ الحريات الفردية ومراجعة الترسانة القانونية التي تحد منها أو حتى تجرمها أحيانا..وقد منحت هذه اللجنة التي تترأسها الأستاذة بشرى بالحاج حميدة ستة أشهر لتقدم تقريرها النهائي لرئيس الدولة..
إذن نحن على بعد أسابيع قليلة من هذا الموعد وقد اختارت لجنة الحريات الفردية والمساواة عدم الإفصاح عن الأفكار والمقترحات التي هي بصدد النضوج وذلك حتى لا تكون عرضة لتجاذبات إيديولوجية وسياسية تمنعها من العمل الرصين الهادئ بعيدا عن ضغوطات الإعلام والرأي العام..

ولكن بعض «التسريبات» عما يعتمل داخل اللجنة من أفكار واقتراحات قد وجدت طريقها هذه الأيام الأخيرة إلى وسائل الإعلام وخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي واهتم العديدون ببعض الجزئيات كحق اختيار اللقب للمواطن البالغ بين لقب أبيه أو لقب أمه وإنهاء العمل بالمهر إلى غير ذلك من الجزئيات التي قد تكون مفيدة ولكن في غير سياقنا التونسي الحالي..

ولكن ما يثير الانتباه وحتى الدهشة هو تقديم مقترح المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة كحالة اختيارية (تماما كالتشارك في الأملاك مثلا ) لا كقانون عام ملزم للجميع كما فهمنا ذلك من نص وروح خطاب رئيس الدولة يوم 13 أوت 2017..

لا أحد يعتقد بأن المسّ من المواريث وإقرار المساواة بين الذكر والأنثى مسألة سهلة ،فالكل يعلم أنّ المساس كما يبدو للناس انه من الدين ،حتى وإن كان من فروعه لا من جوهره،وما يبدو كذلك من مسلمات المجتمع الثقافية والذهنية سيثير جدلا واسعا وسيلقى معارضة أصناف عدة ولكن كان الاعتقاد سائدا كذلك بأننا أمام نافذة تاريخية جديدة نطوي بها إلى الأبد وضعيات التمييز بين الجنسين التي سادت مجتمعنا (وكل مجتمعات الدنيا) منذ قرون ...

وكان الاعتقاد سائدا كذلك بأن التمشي الذي ستذهب فيه اللجنة هو ما أعلنه رئيس الدولة ذاته بأنه اعتمد في دعوته للمساواة في الميراث على الدستور وخاصة في فصله الثاني «تونس،دولة مدنية،تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون (..)» وكذلك الفصل 21 والذي يفتتح باب الحقوق والحريات «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات ،وهم سواء أمام القانون من غير تمييز (...)»

وكلنا نذكر ذلك الجدل الساخن وطنيا وعربيا حول المبادرة الرئاسية ولكن كذلك الآمال الضخمة التي أثارتها في تونس وفي العالم بأسره كذلك حتى اعتقدنا بأننا أمام ثورة ثقافية واجتماعية ثانية تقر المواطنة الكاملة والشاملة دون تمييز..

نحن لا ندري بالضبط ما هي مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة ولكن بعض الأصداء التي وصلتنا من بوابات مختلفة تقول بأن هنالك تمشيا «تدريجيا» بتقديم المساواة في الميراث كحلّ اختياري في مرحلة أولى حتى تنضج العقليات والممارسات وحتى يكون المرور إلى المساواة المفروضة بالقانون مسألة تحظى بمقبولية اجتماعية واسعة ..

لو صحّ هذا التمشي فسنكون ضرورة في الطريق الخطأ وسنضيّع على البلاد فرصة تاريخية لا شيء يؤكد أنّنا سنوجد شروطها وإمكانيتها من جديد..

لقد سبق وأن أكدنا في مرات كثيرة على تهافت كل تصور يقول بأن اللامساواة في الميراث هو من الدين والحجة واضحة وبسيطة : هذا التصور صحيح في حالة واحدة لا ثانية لها وهي الاعتقاد بأن الجوانب التشريعية في المعاملات كالحدود والتعدد وعتق الرقبة ..هي من جوهر الدين وقائمة بقيامه إلى الأزل وهذا ما أجمعت بلادنا ،أو تكاد، وسائر بلاد العرب والمسلمين على تجاوزه على اعتبار أن منظومة الحدود والزواج وشهادة المرأة وبعض أحكام القصاص وأحكام الرق والجزية والحرب وغيرها إنّما هي من الموروثات الدينية لا من العقائد تتطور بتطور عللها وبتطور حياة الناس وأفقهم المعرفي والقيمي ثم إن الدستور التونسي – ورغم محاولات بعضهم – قد حسم هذا النقاش الذي عاد إلى السطح بعد الثورة بتقريره مدنية الدولة وبالتالي بوضعية القوانين ..

هذا على مستوى الحجة التي تسمى دينية وهي حجة تنتمي إلى تاريخ الفقه ولا علاقة لها البتة بروح الدين أمّا لو نظرنا من الناحية الاجتماعية وممارسات العائلة التونسية في مسألة الميراث لرأينا سلوكات شتى تبدأ من العائلة التي تحرم البنت من كل حق في الميراث حتى ولو كان جزئيا إلى تلك التي تتوافق على القسمة المتساوية بين الإناث والذكور من الأبناء..

وهذا يعني أن قانونا يبيح المساواة في الميراث كاختيار لا يضيف شيئا إلى الوضعية الحالية ولا يؤسس لحقوق جديدة..

لاشك بأن لجنة الحريات الفردية والمساواة هي لجنة استشارية لدى رئيس الجمهورية تنتهي مهمتها بإعداد مقترحاتها التأليفية،ولا شك كذلك أن جلسات الاستماع العديدة التي عقدتها خلال الأشهر الماضية تجعلها تدرك مواطن الصعوبة في بعض المقترحات الحساسة ولكن الدنيا تؤخذ غلابا كما يقال والإصلاحات الكبرى تتطلب جرأة كبيرة ولو راعى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة التوازنات الاجتماعية والسياسية والمقبولية الاجتماعية لما أقدم على إصدار مجلة الأحوال الشخصية ولما وحد التعليم وألغى التعليم الزيتوني التقليدي ولما ألغى المحاكم الشرعية..
لقد خلقت مبادرة رئيس الجمهورية فضاء جديدا للممكن فلا يجب إهدار هذه الفرصة التاريخية..

لو تمكنا فقط من إقرار المساواة القانونية الإجبارية في الميراث ومن إيقاف العمل ببعض القوانين المصادرة والمجرمة لحرية الأفراد لكفى بلادنا فخرا ولاستغنينا عن كل الجزئيات الأخرى التي قد تشوش على الأفكار الأساسية وتجعلنا نخسر المعركة الحقيقية..

المهم في رأينا هو إعادة بناء كل منظومة المواريث الفقهية على مبدئين أساسيين: المساواة بين الذكر والأنثى وتحديد تناسبات جديدة لعلاقات القرابة (الأب والأم والإبن والبنت والزوج والزوجة) مع أولوية للقرين امرأة كانت أو رجلا حتى نتجنب بعض المآسي الاجتماعية كطرد الأم أو الأب من محل سكناهما بدعوى القسمة الفورية للتركة.
الكرة الآن ، كما يقال ، في ملعب لجنة الحريات الفردية والمساواة فإمّا تسجيل الهدف أو إهدار الفرصة إلى أجل غير معلوم ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115