أقصر طريق لمقاومة التهميش: خلق نخب جديدة في مناطق التخوم

بعد مرور سبع سنوات على ثورة 17 ديسمبر / 14 جانفي هنالك شبه إجماع عند المؤمنين بشرعية

هذه الثورة وضرورتها بأنها بصدد تحقيق هدف الحرية ولكنها أخفقت إلى الآن في تحقيق مهمتها الرئيسية الأخرى وهي الكرامة..

وهذا التوصيف على عموميته دقيق إلى حدّ ما ..لاشك أننا خطونا خطوات عملاقة في اتجاه ترسيخ الحريات الفردية والعامّة ومنظومة حكم ديمقراطية رغم بعض تعثراتها وترصّد من مازال يحلم بـ«الرجل القوي» و«القبضة الحديدية» ولكن اليقظة المواطنية واجبة لأن تعثر البلاد في انجاز النمو الاقتصادي والحدّ الأدنى من الرفاه الاجتماعي قد يهدد المسار السياسي. وإن تحول التعثر إلى فشل تام فقد تنهار الديمقراطية أيضا ولذا فالنجاح الاقتصادي والاجتماعي مطلوب لذاته ولغيره أيضا أي لدعم الانتقال الديمقراطي وترسيخه وتحصينه من كل عودة إلى الوراء ..

ولكن إن كان واضحا في أذهان الجميع ماهي جلّ مخرجات الحرية من حريات عامة وفردية (مع بعض الصعوبات) والتعددية والانتخابات النزيهة فإننا لم نضع بعد الكلمات الدقيقة حول مخرجات الكرامة..

ما الكرامة ؟ لعل المقابل الأدق والأنسب هو ما يصطلح عليه الفلاسفة بدءا من الفيلسوف الألماني الكبير هيغل : الاعتراف ،فالكرامة ليست شغلا كريما أو موردا ماليا مجزيا أو مكانة اجتماعية مرموقة أو نجاحا شخصيا أو مهنيا ،انه كل ذلك وأكثر ..انه إحساس بقيمة الذات الاعتبارية وبأن الآخر يقر له بذلك..والكرامة هي أيضا انفتاح أبواب الممكن أمام الفرد لتحقيق جزء من أحلامه ولشق طريقه في الحياة بمقادير متفاوتة من الاختيار الحرّ لا أن يفرض عليه المحيط كل شيء ويمنعه من تحقيق ولو قدر يسير ممّا منّى به النفس أو سعى لانجازه..

نحن اذن أمام بعد معنوي وروحي بالمعنى العميق للكلمة ،بعد يتجلى في الجدل بين الحلم الفردي والمناخ الاجتماعي قوامه مفهوم خاص لنجاح وفق الجهد المبذول واعتراف المجتمع بالجهد وتثمينه وفتح إمكانيات النجاح أمام المجتهد..
والإشكال الكبير في كل المجتمعات العصرية أننا لسنا متساوين أمام الكرامة بهذا المعنى متعدد الأبعاد ،فبعضنا بإمكانه الحلم وانجاز مقادير منه وبعضنا يحلم ولا يستطيع أن ينجز شيئا يذكر وبعضنا الآخر يحرم حتى من مجرد الحلم..

لا نعتقد بأن المحددات الاجتماعية والجماعية تفسر كل شيء، إذ تبقى دوما للفرد القدرة على تغيير مسارات حياته ولكن هذا لا يمنع من القول بأن للمحيط تأثيرا كبيرا وأحيانا حاسما على جلّ الناس..
نعود إلى تونس لنقول بأن إخفاقنا جميعا في تحقيق شعار الكرامة هو في عجزنا الجماعي عن ابتكار سبل جديدة لإخراج حوالي ثلث مجتمعنا من التهميش ومن الفقر متعدد الأبعاد (اجتماعيا ومعرفيا بالأساس)..

لقد بقيت نخبتنا أسيرة لثنائية قاتلة وخاطئة في ذات الوقت : جزء يعتقد بأن القضاء على التهميش هو بتوفير شروط نسق نمو مرتفع وجزء آخر له أحلام غائمة عن «منوال تنموي جديد» يقصدون به الخروج الكلي أو الجزئي من اقتصاد السوق .. واصحاب كلا الرأيين المتوارثين منذ عقود لا يفهمون حقيقة التهميش ولا يقترحون له حلولا عملية على المديين القصير والمتوسط..

ينبغي أن ندرك بداية بأن النمو الاقتصادي ،في حد ذاته ،لا يقلص من التهميش بل قد يفاقمه إذا ما اعتبرنا أن التهميش ينبع أساسا من فارق أصلي في سرعة الانصهار والنماء ،وان نموا قويا قد يفاقم هذا الفارق ولا يقلص منه ،كما أن الحلم الاشتراكي الذي لا يفصح عن نفسه والقائم على هيمنة القطاع العام وعلى التوجس من النجاح الفردي والمؤسسة الخاصة القوية وعلى دولنة أغلب قطاعات الاقتصادات إنما هو طوبا مدمرة كما أثبتته تجربة الإنسانية في القرن العشرين..

اليوم لا بديل عن اقتصاد السوق وكل الدول التي قاومت التهميش و«الغيتوات» بصفة فاعلة هي دول اختارت اقتصاد السوق ولكنها أعطت للدولة إمكانيات السياسات العمومية الإدماجية والتعديلية ،وهذا ليس حال الدول الاسكندنافية فحسب بل ودول أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وألمانيا وفرنسا وغيرها..
إن اقصر طريق لمكافحة التهميش المجالي (الجغرافي) والاجتماعي هو في خلق نخب علمية ومالية وسياسية وفنية ورياضية وإعلامية ..في مناطق التخوم عبر سياسات تمييز ايجابي وبرامج عقد أهداف مع كل المتدخلين العموميين..

فالتمييز الايجابي ليس ضخ أموال إضافية في مناطق التخوم ..إنّه بالأساس ضخ الحلم وجعل المستحيل اليوم ممكنا غدا وبكل وضوح..
فالغاية الأساسية من سياسات التمييز الايجابي هي كسر منظومات الامتيازات التي أضحت تهيمن على جلّ المجتمعات المعاصرة وإن كانت ديمقراطية وتقر بتساوي الفرص بين كل مواطنيها..

نحن لسنا سواسية أمام المعرفة والصحة والاستثمار والنبوغ والتفوق ..هذا هو واقع مجتمعنا اليوم ومجتمعات كثيرة غربية وشرقية،ولكنّ هذا ليس قدرا محتوما ينبغي انتظار عقدين أو ثلاثة من نمو سريع لإصلاحه ..
أسرع طريق لبداية مقاومة جغرافية التهميش هو خلق نخب جديدة في مناطق التخوم ،نخب علمية وفكرية وفنية وسياسية ومالية ..وذلك ممكن في المدى المتوسط عبر سياسات مدروسة في التمييز الايجابي ..

أولى الخطوات هو أن ندخل نظام «الكوتا» (نصاب معلوم) في الشعب الجامعية النبيلة (طب وصيدلة وهندسة معمارية وهندسة ودراسات تجارية عليا ..) لأبناء المعتمديات الأقل حظا وهذا ليس افتئاتا على مبدإ المساواة بل هو إصلاح لخلل هيكلي في المجتمع إذ ينبغي أن نعلم أن المتحصل على معدل 14/ 20 في بعض معاهدنا لا يقل ذكاء أو قدرة أو عزيمة عن التلميذ المتحصل على معدل 18/ 20 في بعض المعاهد الأخرى ، الفرق الوحيد بينهما هو فرق اجتماعي عائلي ،فرق على الدولة إصلاحه بسياسة تمييزية الآن وهنا في انتظار إصلاح جذري للمنظومة التربوية يوفر التفوق والامتياز لكل أبناء وبنات تونس..

وبالإضافة إلى «الكوتا» التمييزي في الشعب الجامعية النبيلة ،لابد أيضا من «كوتا» تمييزي في الانتداب في الوظيفة العمومية أو القطاع العام ومن تحفيز القطاع الخاص جبائيا على للنسيج على نفس المنوال ..

وينبغي أن تكون هذه السياسة سياسة الدولة في جميع مجالات تدخلها : في الإعلام العمومي وفي مختلف مؤسساتها وان تفرض التنوع الاجتماعي في كل مستوياتها بدءا من المدرسة الابتدائية حيث لا تتعايش مختلف الفئات الاجتماعية ولاسيما في تونس الكبرى وفي بعض المدن الساحلية أيضا فلا يمكن أن نقاوم التهميش بينما ترسخه كل ممارساتنا اليومية على المستوى الفردي والجماعي أيضا ..

ويبقى صنف آخر من التمييز الايجابي نقدر بأنه جوهري في عملية التحول العميقة وهو خلق نساء ورجال أعمال في مناطق التخوم.. ولا نقصد بذلك الإعانة على الانتصاب للحساب الخاص في المشاريع الصغيرة جدا أو الصغيرة ،نقصد بذلك دفع شباب التخوم الحامل لأفكار جريئة للانتصاب للحساب الخاص في مشاريع هامة تشغل العشرات منذ البداية ويكون رأس مالها في حدود مليون دينار..

الفكرة بسيطة : خلق جيل جديد من الباعثات والباعثين في مناطق التهميش الحالية من أبناء هذه المناطق ذاتها وبدعم ورعاية من مؤسسات تمويلية تقوم على الشراكة بين القطاعين العام والخاص تضمن التكوين والمتابعة والاسناد وتراهن على بعث ألف مشروع من هذا الصنف سنويا دون أن يثقل ذلك ميزانية الدولة لان التمويلات الخاصة الوطنية والأجنبية موجودة وهنالك استعداد كبير للانخراط في أفكار طموحة كهذه..

المهم هنا هو أن نقول لكل شبابنا في المناطق المهمشة انه بإمكانكم أن تصبحوا أثرياء بواسطة بعث مشاريع اقتصادية وأنكم مطالبون فقط باستنباط الأفكار وبإثبات التصميم وقوة العزيمة على الانجاز..

تصوروا لو اصبح في كل حي مهمش طلبة في الطب والهندسة والصيدلة ونواة لصناعيين وأصحاب مشاريع متوسطة هامة وإطارات إدارية عليا وقادة سياسيون واجتماعيون (وهذه مسؤولية الأحزاب والجمعيات ) وإعلاميون بارزون.. عندها بالإماكن ان نقول لكل الأطفال هناك : هذا هو النجاح وهو متاح لكم شرط الاجتهاد الدراسي أولا والتصميم على النجاح ،ثانيا،أما «نجاح» بائعي المخدرات والمهربين فهو وهم قاتل..وأما «الحرقة» فهي وهم زائف لأنه بإمكان الجميع تحقيق جزء من أحلامهم في بلدهم وان الكرامة التي يبحث عنها الجميع متاحة لكل ذي عقل راجح وإرادة مصممة..

صحيح أن هذا الصنف من التمييز الايجابي لن يغير واقع كل مواطني التخوم ولكنه سيغير معطى جوهريا في حياتهم جميعا : الأمل أصبح ممكنا في حيهم وفي مساراتهم الشخصية وان هذه النجاحات الفردية في البداية ،ستسهم بدورها في خلق الثروة وفي النمو العام وفي التنمية الاجتماعية لكل مناطق البلاد..
فالمعادلة الصحيحة اليوم هي أن النخب الجديدة في مناطق التخوم هي التي ستسهم في خلق النمو الوطني العام لا العكس..

نحن بحاجة فقط إلى شيء من الابتكار والجرأة..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115