يا سي يوسف: إنت تعرف.. وأنا نعرف.. والقطوسة تعرف

أعلم جيّدا أنّني لن أفي الموضوع حقّه في بضعة أسطر، وأعرف جيّدا أنّك سيدي الرئيس ملمّ بالموضوع أيّما إلمام.. لكن سأقنع بالتذكير:

• متجاهل من يتساءل عن أسباب انتفاضة شباب همّش، شباب عانى من البطالة أصنافا، ومتجاهل مستهزئ من يعتبرهم في استنكار شبابا باحثا عن أعذار لأنّ الشغل " متوفّر" لمن يطلبه. فهذا الشباب المنتفض هو المتعلّم، وعيل صبره على وضعه، خاصّة بعد أن أضاع ما اكتسبه من تكوين.. تريدون منه الصمت؟ وفي الأثناء يشاهد من هو أقلّ منه غانما. والسبب لأنّ هذا الغير اختار الانتماء الإيديولوجي المربح، بينما ظلّ هو وفيّا لمبادئ كنّا قد لقنّاه إياها فإذا به يعاقب عليها. فمن هؤلاء الشباب من صبر على بطالته عشر سنين إن لم نقل أكثر، عشر سنين اقتطعت من حياته، وهو باق على حال واحدة: التكدّي من الوالدين لأجل قهوة يرتشفها طوال يومه ويرتشف معها نضارته وخيبته. وإن عزم على رمي مكتسباته جانبا في سبيل الحصول على قوت فإنّه لا يجد في سوق العرض سوى العمل في الحضائر.. وكم أشرفت على باحثين من طلبتي ألتقيهم فأجدهم منهكين وأناملهم منتفخة لأنّهم كانوا في المرمّة، فأخجل وأسائل نفسي: كيف لهذا الباحث أن يستوعب الإشكاليات المعرفية وجسده يئنّ وبطنه خاوية؟ وتلك هي الشريحة الكبرى من أبنائنا.. ثمّ تتساءلون عن مستوى الطالب وغياب الرغبة في التعليم والبحث، وعن تخاذله؟؟؟

• وضع قلق نبّهنا إليه وحذّرنا منه: لأنّ علامات التحرّك اتخذت أشكالا عديدة، بوادرها كانت مع انضمام الكثير من هؤلاء إلى عمليات استقطاب إرهابيين، وقد صار بيّنا اليوم أنّ الانتماء إلى الدواعش ليس دائما لأسباب إيديولوجية ، وإنّما هو ارتزاق أيضا. ومن رفض منهم بيع نفسه ظلّ كما يقول أجدادنا " كيف الكورة بين الذكورة".

• علّق بعض المشتغلين خارج تونس على شرعية انتفاضة الشباب في إذاعة خاصّة : " الصيف الجاي كيف نرجع لتونس باش نبني يجيبو البطاقة عدد3 ونقبلهم في الشانطي".. لا أخفيكم، آلمني مثل هذا التدخّل، لأنّه تعبير عن قطيعة طبقية ناشئة وبدأت تتسع شيئا فشيئا، وهذا مفزع، واضمحلّت تلك العلاقة التي تربط المجتمع التونسي بكافّة أصنافه.. وفي هذه المسألة ارجع الأسباب إلى الإعلام التونسي الذي تجنّد بطريقة "بنفسجية" في تشويه حركة شبابنا الكريم/الجائع. وتحوّلت القنوات إلى فضاءات تتنافس في التعبير عن الولاء للسلطة الحاكمة وتقزيم إرادة هؤلاء.. خلت نفسي وأن أتابع حصّة مباشرة على الأولى، قناة الشعب التي يقتطع من لحمي ولحمك لكي تتغذّى منه وتعيش، أمام تحقيق بوليسي من صنف التحقيقات التي تمارس على المتهمين بالجوسسة أو الخيانة العظمى، فإذا بالمشهد يتغيّر تماما، وإذا بي ألمس للحظة صورة حيّة لما يمكن أن يعانيه مستنطق، حدث هذا في عهد تونس لحرية التعبير ومع أحد أبنائها الذين اختاروا عن اقتناع البقاء في بلدهم بحثا عن حلّ لمشكلة حياتهم.

• انساق إعلامنا الموقّر جاهدا في سبيل الخروج عن الموضوع، وتهميش قضية، ستتعقّد حتى وإن وفّق في كمد أنفاسها اليوم.. وصار الحديث عن فئة من المراهقين يظهرون في كلّ الاحتجاجات إمّا بفاعل أو بغير فاعل، لاقتناص الفرص، وانتشر الوزراء الكرام في كافّة القنوات مندّدين ، وقد باع بعضهم مبادئه التي طالما دافع عنها.. فبئس الكرسي هو، لأنّه كرسي يدور، وكما دار إليك فسيدور عنك ويولي بظهره.. ولن تبقى سوى الكلمة بحسناتها وسيئاتها، والذاكرة الجماعية تحفظ، تخرجها إليك في لحظة لا تترقبها.. كان الأولى بمسؤولينا السياسيين والإعلاميين أن يعطوا لهذه اللحظة حقّ قدرها، وكان الأولى بهم تطارح الأسباب التي دفعت بالشعب التونسي إلى الاحتجاج، لأنّ الشعب الساكت هو شعب ميّت..

• كان من المنتظر أن نتحدّث إلى بعضنا بعضا يا سيدي رئيس الحكومة: وليس الآن، بل كان من الأولى لو فتح حوار بينك وبيننا منذ الخريف، وأن تشركنا، على الأقلّ، بإعلامنا، بنيّتك في قراراتك، والشعوب المتحضّرة هي تلك الواعية والتي تدري في أيّة طريق تمشي.. و ماهو برنامجك القريب والمتوسّط والعاجل، وأن نتحدّث معا في الإجراءات التي ستتّخذ حتى نواجه معا التحديات الاقتصادية، لا أن تقرأها مبعثرة من هنا وهناك، أو أن يستقدم كلّ صحافيّ وصحافية من يراه مسالما للتحدّث عن قضايا مصيرية. كان من الأفضل أن نسمع حديثا صريحا يستبق الحديث عن الإجراءات الصارمة.. فأنا لا أقدر على تحمّلها إذا استحضرت أنّ سياستك في مقاومة الفاسدين ظرفية، وتخضع لإملاءات حزبية، بينما كان الأجدر بك أن لا تنصت سوى إلى املاءات شعبك.. لا أقدر على تحمّل تبعات الزيادات وأن أقف على اجتنابك الحديث عمّا عانته تونس طيلة السبع سنوات حتى أنّ المسألة صارت من قبيل " التابوهات".. نحن نريد، وقبل كلّ شيء أن نتعرّف على مصير آلاف الميليارات التي اقترضناها، وعن الأسباب الموضوعية التي دفعت بالحكومات السابقة حتى تتغاضى عن الميليارات المدفوعة لجماعة العفو التشريعي العامّ، وأعتقد أنّنا لسنا بالكافرين إن تحدّثنا عن هذه القضية التي تقضّ مضجع كلّ تونسي، والأدهى أن نتحدّث عمّن انتدب في هذه السنوات ولم يخضع للسلّم الإداري، الأمر الذي اثقل كاهل الإدارة التونسية، ونحن لسنا على استعداد لتحمّل أعبائها اليوم.. نحن نريد أن نلمس نتائج البحوث القضائية في الملفّات الحارقة، فالاستنطاق لا يكفي.. باختصار: نحن نريد أن نرى الطريق التي اجتزناها نظيفة ناصعة وخالية من كلّ نقد، وعندئذ تأكّد سيدي فإنّ شعبك طيّب الأعراق، سيكون إلى جانب اختياراتك لأنّها الاختيارات التي تبنّاها ولم تمل عليه.
هذه حقائق تعرفها ونعرفها جميعا.. ولن يصلح حالنا ما لم نضع أصابعنا على الدّمل الذي امتلأ قيحا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115