رغم الانتقادات والتهجمات ونوايا المراجعات: النهضة : الوفاق ..الوفاق ..إلى نهاية الزقاق ..

المتابع عن بعد للحياة السياسية التونسية لا يكاد يفهم الدوافع والأهداف التي تجعل من قيادة حركة النهضة متمسكة بـ«التوافق»

مع النداء إلى أقصى الحدود حتى عندما تطالها انتقادات وأحيانا تهجمات من حليفها المتململ فتراها قادرة على نوع من برود الدم الانجليزي والإمساك عن ردّ الفعل معتبرة أن «التوافق» هو الأفق السياسي الوحيد، وهو أفق عندها غير قابل للتجاوز على المعنى الذي كان يؤمن به بعض مثقفي اليسار الغربي في ستينات القرن الماضي عندما كانوا يرددون بكل اقتناع بأن الماركسية هي الأفق الفكري غير القابل للتجاوز (Horizon indepassable) بل ونجد عند مؤسس النهضة والمنظر الأساسي للتوافق الملغي للفروق الجوهرية تبريرا جديدا قدمه يوم أمس أمام مئات الإطارات من حزبه المجتمعين في الندوة السنوية للنهضة عندما اعتبر أن التوافق (مع النداء بالطبع) هو في جوهر استحقاقات الثورة التونسية في إجابة غير مباشرة على منتقديه داخل حزبه والذين يعتبرون أن الخط السياسي الحالي للحركة الإسلامية هو خط انبطاحي أمام عودة المنظومة القديمة..

أمام هذا النقد وقطعا لكل إمكانية او حتى مجرد التفكير في تغيير تحالفات الحركة يعتبر الغنوشي أن تجربة «الوفاق» في الترويكا الأولى بين «الإسلاميين والعلمانيين» بقيت منقوصة «لعدم استيعابها قوى أخرى» أما اليوم «وبعد الحوار الوطني فقد ترسخت أكثر الصفة السلمية الجامعة للنموذج التونسي التي بدأت بإسقاط قانون العزل السياسي ثم تعززت بالعدالة الانتقالية وأخيرا بالمصادقة على قانون المصالحة..»

إن المصغي لهذه الكلمات يدرك حجم التحول السياسي في استراتيجيا القيادة النهضوية فهي لم تعد تريد قطعا مع الماضي باسم الثورة أو الايديولوجيا الإسلامية بل تصالحا تاما معه وأن معنى الثورة هو في هذا الوفاق الجديد مع النداء المتخلص من تياراته «الاستئصالية» أي مع صيغة محافظة للتيار الدستوري الذي كان العدو الرئيسي للحركة الإسلامية على امتداد أربعة عقود ..

وبهذا الوفاق الحاصل مع النداء بوجهه الدستوري الصرف لم يعد يهم كثيرا التحاق أصدقاء الأمس (المؤتمر من اجل الجمهورية في صيغته الحراكية أو التكتل) أو أعداء اليوم (الجبهة الشعبية وكل القوى «الاستئصالية») فالتحالف مع النداء /الدستوري هو غاية المنى والأفق غير القابل للتجاوز بالنسبة لراشد الغنوشي وللخط السياسي الرسمي لحركة النهضة اليوم..
واغرب ما في الأمر بأن هذا الكلام يأتي بعد أكثر من 4 أشهر من «النيران الصديقة» بدءا بقصر قرطاج وصولا إلى البحيرة (المقر المركزي لنداء تونس) وأحوازها من تشكيك في مدنية النهضة ثم في أحسن الحالات تعامل الاستاذ مع التلميذ من صنف : هنالك بعض التقدم (في المدنية) ولكن عليه المزيد من العمل ! إلى نسبة خيبة ألمانيا إليها واتهامها المبطن بالغدر ونكث العهد هذا دون احتساب إحراجها الكبير أمام قواعدها الانتخابية بالمبادرة الرئاسية للمساواة في الميراث..فالنهضة أظهرت أنها كالملاكم الذي يحسن تقبّل اللكمات ولكنه لا يرد عليها..والسؤال هل أن ذلك لعجز عن الردّ أم هو إمساك يخفي خطة أخرى ؟

ما نرجحه هو اعتقاد راشد الغنوشي بأن الحكم الإسلامي المنفرد أضحى أمرا مستحيلا ولفترة قد تطول فلا الداخل الوطني قابل به ولا المحيط الدولي كذلك ، وهذا يستوجب حتما البحث عن «مظلات» حامية داخليا وخارجيا أيضا حتى لا تتحول عدم المقبولية هذه للحكم المنفرد إلى إقصاء جديد من الساحة،وهذا ما يجعلنا نفهم هوس الإسلاميين من كل قوة يشتم منها، ولو عن بعد، رائحة «الاستئصال»

تعتقد حركة النهضة – أو بالأحرى راشد الغنوشي – أن المظلة الدستورية هي وحدها القادرة على لعب دور الحماية هذا ولكن النهضة تخشى أيضا ممّا يمكن أن نسميه بالنزعة البورقيبوية الجديدة الرافضة إيديولوجيا للإسلام السياسي، ولذلك تراها تشجع بكل ما أوتيت من قوة «تخلص» التيار الدستوري من «اللوثة» البورقيبية وذلك عبر البحث عن «الجدّ» المشترك وقد قام بهذا الدور بعض الأصدقاء الظرفيين أو الدائمين لحركة النهضة داخل النداء عندما أرادوا أن يجعلوا من عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري (والذي سيسمى بالقديم بعد الانشقاق البورقيبي)سنة 1920 هذا «الجدّ» المشترك والحلقة المفقودة بين النداء «البورقيبي» والنهضة «الزيتونية»..ولكن تخلت النهضة عن هذا الحلم بعدما تأكدت أن التيار الدستوري التونسي بورقيبي إلى النخاع..فقبلت بالحربوشة عن مضض عساها تخفف ما أمكن من «علمانية» شركائها في الحكم..

ولكن يبدو أن الإستراتيجية النهضوية لم تتمكن بعد من تحويل شراكتها مع الباجي قائد السبسي ونداء تونس إلى تحالف استراتيجي مؤسساتي يدوم بين الحزبين حتى بعد رحيل الشيخين..

وهذا ما يفسر «صبر» النهضة على كل الانتقادات وحتى التهجمات (إلا تلك التي تأتي من بعض المنتدبين الجدد للنداء ،فتكيل لهم النهضة الصاع صاعين) عساها تتمكن من عقد تحالف استراتيجي نهائي مع شريكها اليوم وغريمها بالأمس ،ولكن ما هو «مهر» هذا التحالف وماذا يمكن للنهضة أن تقدم للنداء مقابل هذه المظلة الحامية؟
العقد غير المكتوب هو أن النهضة قادرة على توفير الانتصار الانتخابي للنداء في مناسبات مفصلية ،كالرئاسية مثلا ،أي أن النهضة مستعدة لدعم مرشح النداء للفوز في الانتخابات الأهم بالنسبة لحزب الرئيس..

وهنا تأتي الانتخابات التشريعية الجزئية بألمانيا لتؤكد حقيقة بديهية غابت عن «الأدمغة» المفكرة الندائية والنهضوية على حدّ سواء : القاعدة الانتخابية النهضوية لا ولن تصوت لندائي لا في الرئاسية ولا في التشريعية ولا في البلدية ولا حتى في انتخابات جزئية دون رهانات كبرى،والعكس بالعكس أيضا..
والإشكال الكبير للنهضويين اليوم انه دون هذا «المهر» فلا كبير فائدة للنداء في التحالف مع الحركة الإسلامية ،بل ربّما أفاقت القيادات الندائية الملتفة حول نجل الرئيس الى ان جرعة من التهجم على النهضة ضرورية لاستعادة بعض قواعدها الانتخابية التي خذلتها البارحة في المانيا وقد تخذلها غدا في الانتخابات البلدية وكذلك في الانتخابات العامة لسنة 2019 وعندها ستكون الكارثة الكبرى للندائيين ولحلم قائدهم اليوم في «التوريث الديمقراطي»..

هذا ما يفسر التنظير الغنوشي الأخير ..
ولكن التنظير لا يوفر أصواتا ولا يضمن انتصارا ولا يتحول إلى «مهر»مقبول..
الديمقراطية الانتخابية هي أيضا حيلة من حيل التاريخ، تتكسر على صندوقها أحلام وأوهام كثيرة ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115