أضحى سر «بوليشينال» الأول في تونس: المشروع السياسي ليوسف الشاهد ...

الأسرار أصناف وأنواع ،منها تلك التي يعلمها الجميع ولكن لا أحد يعلم هل هي مشاعة بين الجميع أم لا،

ويطلق الفرنسيون على هذا الصنف اسما لطيفا «سرّ بوليشينال»(Secret de polichinelle) بالاستناد إلى إحدى الشخصيات الظريفة في المسرح الشعبي الايطالي في عصر النهضة..

سرّ «بوليشينال» تونس الأول هو أن لرئيس الحكومة طموحا سياسيا،كل يدعي معرفة به وبتفاصيله وأحيانا بروزنامته أيضا،ولكن الكل يحذرك من البوح بهذا «السرّ» العظيم حتى لا تفسد الخطة أو حتى لا ينكشف أمر ناقل «السرّ»

وفي الحقيقة لا يشك عاقل واحد - دون أن يكون على دراية بأي سرّ من أسرار الآلهة - بأن لصاحب القصبة الحالي طموحا سياسيا يتجاوز مجرد التفاني في خدمة البلاد في هذا الظرف الدقيق بالذات ..تماما كما كان لأحد أسلافه في نفس الموقع ،المهدي جمعة وكما تكتم هذا الأخير على هذا «السرّ» إبان حكمه إلا على خاصة خاصته فكذا الأمر،على ما يبدو،مع يوسف الشاهد، سرّ تنفيه كل التصريحات ولكن تؤكده كل الهمسات المنطلقة من القصبة وأحوازها..

ما هو الطموح السياسي الممكن لرئيس حكومة ؟ أمران اثنان لا يتناقضان ضرورة : الاستمرار في نفس الموقع لمدة طويلة أو الارتقاء إلى «الكبريت الأحمر» لكل ساسة تونس أي كرسي قرطاج ولعلّ الطموح الأول هو التمهيد الضروري للطموح الثاني في وضعية الحال..
ولكن هل يمكن الجزم بأن يوسف الشاهد على وعي تام بشروط إمكان تحقيق هذا الطموح وبالطرق الميسرة له أم لا ؟

تصعب الإجابة القطعية عن هذا السؤال ،ولعلّ الأرجح هو وجود عناصر واضحة في ذهن رئيس الحكومة وأخرى غائمة لم تتحدد صورتها بعد،ولعل الغائم اليوم هو الطاغي على الواضح..

قبل الاستمرار في سبر هذا الطموح واستراتيجياته الممكنة نجيب من الآن على السؤال الأول والبديهي : ما الذي يجعلنا متأكدين من وجود هذا المشروع السياسي عند يوسف الشاهد ؟ الجواب يأتينا من الأحداث المتضافرة : مغادرة وزراء حكومته لأحزابهم (الجمهوري سابقا وآفاق حاليا) وتمسكهم بحقائبهم ،والواضح أننّا لسنا فقط أمام تشبث بكرسي الوزارة أو تمسك بأداء الواجب بل أمام إيمان بأن المشروع السياسي ليوسف الشاهد هو أهم وأوسع من المشاريع السياسية لأحزابهم وأنهم لم ينخرطوا فقط في الحكومة بل وكذلك (على الأقل بالنسبة لأغلبهم) في المشروع السياسي لصاحب القصبة..
ولكن ما هي إستراتيجية يوسف الشاهد لتحقيق هذا الطموح ؟ هنا يجد رئيس الحكومة نفسه أمام مفترق طرق محيّر :

• البقاء في القصبة إلى آخر لحظة (اي الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019) والتعويل على نجاح اقتصادي نسبي يؤهله لمواصلة المشوار،ولكن مع أية أغلبية ومع أي رئيس قادم للجمهورية ؟

فهذا السيناريو لا يستقيم إلا في صورة واحدة : ترشح الباجي قائد السبسي لعهدة ثانية وفوزه في الانتخابات مع فوز، ولو نسبي، للتحالف النهضوي الندائي في الانتخابات التشريعية .. وهذا يقتضي أيضا أن يحافظ يوسف الشاهد على علاقة حسنة مع قيادة الحزبين وهذا ليس أكيدا إلاّ في صورة تواصل الدعم الرئاسي للشاهد..

• البحث عن صيغة «توافقية» يعود بها الشاهد إلى نداء تونس باعتباره القائد الفعلي له وبعد إزاحة بعض الوجوه الجديدة / القديمة منه ولكن هذا يفترض أمرا آخر وهو تخلي حافظ قائد السبسي عن كل طموح للعب الدور الأول في النداء وفي البلاد ،وكذلك أن يكون لرئيس الحكومة نساؤه ورجاله في حزبه بالكثافة المطلوبة لقلب موازين القوى وهو ما يبدو صعب المنال إن لم نقل مستحيلا وفق المعطيات الراهنة

• مغادرة الحكومة بعيد الانتخابات البلدية القادمة للإعلان عن مشروع سياسي مستقل يخوض به الانتخابات العامة لسنة 2019 ،ولكن هذا يفترض بالطبع القطع مع التحالف الحاكم وخاصة مع رئاسة الجمهورية أي القدرة على «قتل الأب» ولكن كل المحيطين بيوسف الشاهد يؤكدون بأنه لن يقدم على هذه الخطوة مطلقا وانه لن يفعل شيئا يغيظ صاحب قرطاج وانه لن يتنكر له مهما كانت المغريات ..
قد يكون الحلّ المثالي ليوسف الشاهد هو تعيينه الرمزي كـ«وريث» للباجي قائد السبسي من قبل هذا الأخير ولكن قد يطول انتظار صاحب القصبة وقد لا يأتي هذا «التوريث» الرمزي لأسباب شتى لعلّ من بينها رفض رئيس الدولة تسليم المشعل في حياته لأحد..

• • •
لا وجود إذن لطريق معبدة ليوسف الشاهد بل لا وجود لطريق معبدة
لأحد، والسياسي الناجح هو الذي يعرف كيف يقتنص نصف الفرصة التي تتاح له اما لو انتظر اصطفاف كل الافلاك في طريقه فقد يراوح مكانه ويلفّه من بعد نهر النسيان الهادر..

فشعبية يوسف الشاهد الناجمة أساسا عن حربه على الفساد لن تكون أزلية خاصة إن تردد في المسّ بمصالح الحيتان الكبيرة في السياسة..
فالرأي العام معطى متحول باستمرار في عالم هيمنة السياسة المشهدية .

كل هذا دون احتساب المشاريع السياسية الأخرى والتحولات المحلية والاقليمية...
الإشكال الذي أمام يوسف الشاهد الآن هو بالضبط الإشكال الذي كان أمام «ايكار» عندما أراد استعمال جناحي الشمع اللذين صنعهما والده للهروب من المتاهة : التحليق عاليا يجعله يقترب من أشعة الشمس فيذوب الجناحان ويكون مصيره الغرق، أما التحليق برفق فقد يجعله عرضة لأمواج البحر العاتية ويغرق كذلك..

ايكار الشاب لم يصغ جيّدا لنصائح أبيه فراح يرتفع بقوة إلى أن أذابت الشمس جناحيه فمات غرقا ..
ولكن الحيطة المبالغ فيها والتحليق قرب أمواج البحر ليس أكثر أمانا..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115