17 ديسمبر: الصوت الذي لـم يسمع بعد !

تمر اليوم سبع سنوات على انطلاق الفتيل المباشر للثورة التونسية..وقد سال حبر كثير حول الشروط التي سمحت لعمل فردي قصووي

(إحراق الشهيد محمد البوعزيزي جسده) أن يتحول إلى احتجاج تمردي انطلق من سيدي بوزيد وانتشر إلى القصرين وقفصة وتوزر وسليانة والقيروان،ثم جميع ولايات الجمهورية إلى أن ختم بمظاهرة 14 جانفي بالعاصمة ففرار بن علي عشية نفس اليوم.
ما الذي سمح بهذا الربط بينما استحال في عدة مناسبات سابقة ولعل أهمها انتفاضة الحوض المنجمي في 2008 ؟

يمكن أن نقدم كل التفسيرات وبعضها مفيد ويضيء الأحداث بصفة جديدة ،ولكن تبقى الأحداث المُؤسِّسَة محاطة دوما بنوع من السر وبنوع من الفرادة المستعصية على كل تفسير قطعي ..الأحداث المؤسسة تخضع للتفهم ولا تخضع دوما للتفسير السببي الحتمي ..
ولكن ما هو أهم من التفسير السببي هو معرفة طبيعة الاحتجاجات التي انطلقت بعد لحظة إحراق البوعزيزي لجسده والتي سنسميها لحظة 17 ديسمبر .

كل الاحتجاجات التي يمكن أن ندخلها في خانة لحظة 17 ديسمبر، وبعضها سابق عن 17 ديسمبر 2010 كتاريخ والبعض الآخر لاحق إنما هي كما قلنا في تونس احتجاجات الكرامة. فجموع التونسيين الذين انتفضوا في سيدي بوزيد والقصرين وسليانة وغيرها من الولايات الداخلية طالبت بالكرامة وإن عبرت عنها بأشكال مختلفة ..والكرامة تفهم دوما بعلاقاتها بالمفهوم النقيضي «الحُڤقْرة»..أي أن هنالك شعورا متناميا عند العديد من التونسيين بأنهم لاشيء وان الدولة أو المتنفذين سياسيا وماليا وثقافيا لا يقيمون لهم أي وزن..

فالحقرة لا تعني فقط الازدراء الطبقي والجهوي بل تعني النفي بالمعنى الفلسفي والمواطنون الذين يشعرون بالحقرة لا يطالبون فقط بالشغل باعتباره استحقاقا ولكن يطالبون بما هو أكثر من ذلك..يطالبون بالاعتراف (la reconnaissance) أي يطالبون بالقسمة لا فقط المادية ولكن الرمزية كذلك..
لحظة 17 ديسمبر تلقفتها النخب( بالمعنى الواسع للكلمة ) وشباب المدن الساحلية أي تونس الناجحة والمندمجة ،تونس لحظة 14 جانفي والتي تطالب كذلك بالكرامة ولكن بالأساس بالحرية،فعندما التحمت لحظة 17 ديسمبر بلحظة 14 جانفي لم يعد بإمكان بن علي البقاء في السلطة حتى وإن لم يهرب من البلاد..والثورة التونسية هي لحظة الالتحام هذه والتي عبر عنها بعض باعة الخضر بصفة عفوية في الأيام التي تلت 14 جانفي 2011 : «واللي ما عنداش ياكل بلاش»..

ونعتقد أن احدى أهم أزمات تونس على امتداد هذه السنوات السبع هي تنكر 14 جانفي لـ17 ديسمبر..أي بعد هروب الطاغية وبعد اللحمة بين اللحظتين عدنا إلى المربع الأول : تونس الوازنة والناجحة لم تعد تلتفت إلى تونس الأعماق المهمشة، بل أصبح صوت 17 ديسمبر يقلقها ويزعجها وترى فيه مطالب مشطّة ورفضا للعمل الجاد وتعويلا مبالغا فيه على الدولة وإتباعا للتيارات الشعبوية وإيمانا بنظريات المؤامرة..

ما ينبغي الإقرار به أن الهوّة بين 17 ديسمبر و14 جانفي ليست فقط اجتماعية أو في درجة الترابطية (la connectivité) بل هي أيضا فوارق في المخيال ،وهي أهم وأخطر الفوارق لأنها قد تمنع الحوار داخل نفس البلاد وتمنع الإنصات لجزء هام من مواطناتنا ومواطنينا ..
17 ديسمبر ليس زمانا معينا أو مكانا مخصوصا،17 ديسمبر هو تونس المهمشة التي تعيش بين ظهرانينا..أحيانا على بعد مئات الأمتار من مساكننا ونتقاسم معها نفس الطرق والأرصفة دون أن نلتقي بها.. فـ17 ديسمبر و14 جانفي موجودان في كل ولاية وفي كل مدينة ولكن بنسب متفاوتة..

تؤكد أرقام المعهد الوطني للإحصاء أنّ الفقر متعدد الأبعاد (المادي والمعرفي والصحي وكل ما يتعلق بمحيط الحياة) يشمل حوالي ثلث المواطنين..والأكيد أن الثلث الثاني يعيش حالات مختلفة من الهشاشات فيما يتمكن الثلث الثالث من الاستفادة ولو نسبيا،من المشاركة الفعالة في الرأسمالين المادي والرمزي..
سؤال لم نطرحه بعد بالقوة اللازمة : هل يمكن لبلاد أن تنجح وثلث شعبها تحت خط الفقر الفعلي المعيشي والثلث الآخر يعيش صعوبات جمة اقتصاديا واجتماعيا ومعرفيا ؟ هل من معنى لرفاهية لانتقاسمها مع أغلب مواطنينا ؟

هذه ليست فقط اسئلة الثورة انها أسئلة الديمقراطية أيضا وأسئلة المواطنة كذلك..يخطئ من يعتقد أن الديمقراطية هي فقط حرية التعبير والتنظم وانتخابات حرة ونزيهة..الديمقراطية هي هذا ولاشك ولكن كذلك مشاركة اوسع عدد ممكن في الرأسمالين المادي والرمزي ..وعندما يكون التهميش هو نصيب نسبة هامة في المجتمع تصبح الديمقراطية مهددة في جوهرها لاننا قد نفتح الباب على مصراعيه للمغامرات الشعبوية من كل صنف وجنس..

فالإنصات لـ17 ديسمبر هو التفكير في كل هذا وهو الحوار الجدي والهادئ لكي نخلق من التهميش الموضوعي الذي تعيشه فئات وجهات عديدة في بلادنا عنصرا لخلق الثروة والتميز ولتصور جديد لا يقوم على المركز والأطراف لا ماديا ولا معنويا كذلك..

لا يمكن أن نتصور نجاحا لتونس دون سيرورية إدماجية شاملة للحظتي 17 ديسمبر و14 جانفي ..فـ17 ديسمبر دون 14 جانفي هو تمهيد الطريق لكل الشعبويات المدمرة ،ولكن 14 جانفي دون 17 ديسمبر هو انغلاق النخب على ذاتها وقطيعتها النهائية مع شعبها ..
لكل ذلك لا خيار لنا سوى الإنصات جيدا لـ17 ديسمبر ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115