Print this page

الأعراف يصعّدون، فعند أي حدّ سيقفون؟

إن المتابع لما يجري في بلادنا يصاب أحيانا بالدوّار فلا شيء عندنا يشبه ما يجري في بلاد الله الواسعة..فعندنا حكومة تتهمها أحزاب المعارضة بأنها مكونة من تحالف يميني يميني وأنها في خدمة صندوق النقد الدولي لا تعمل إلا لصالح الأغنياء وتزيد في تفقير الفقراء..وفي الجانب الآخر من الصورة نجد انتفاضة فريدة من نوعها للأعراف وتهديدا بإضراب

لأصحاب العمل لو تم تمرير قانون المالية في صيغته الحالية..
ولكن انتفاضة الأعراف وتهديدهم بالتصعيد لا تعني بأننا أمام حكومة الأجراء أو أن سياساتنا العمومية اشتراكية النزعة..
لقد أتينا في مناسبات عديدة على مآخذ الأعراف على مشروع قانون المالية وعلى السياسات العمومية الداعمة له ويمكن أن نجملها في ما يلي :

• إثقال كاهل المؤسسة المنظمة بضرائب

• التقلب الجبائي من سنة إلى آخرى

• المراهنة على الجباية بدلا من المراهنة على النمو

• عدم الشروع في إصلاح المؤسسات العمومية

وفي المحصلة عدم الإنصات إلى الأعراف مقابل التنازل لاتحاد الشغل..

هذا التوصيف ككل توصيف يستند إلى معطيات موضوعية والى مخيال جماعي كذلك مفاده أن صاحب المؤسسة «كالحوت متّاكل ومذموم» ولعلّ أهمّ ما في تصعيد الأعراف هو الأشكال التي سيلجؤون إليها من إضراب ( أي غلق المؤسسات) وهل أن التصعيد سيصل بهم فعلا إلى مغادرة اتفاق قرطاج وهل يفكرون ، مع ذلك ، في نوع من أنواع العصيان الجبائي كما سبقهم إلى ذلك – على مستوى الفكرة على الأقل – بعض المهن الحرة؟ !

وأخيرا ما مدى ارتباط هذا التصعيد بالمؤتمر القادم لاتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية الذي سينعقد في شهر جانفي القادم ؟

ثم هل توجد منطقة رمادية تهدئ من روع الأعراف ولا تجبر الحكومة على تغيير جوهري في مشروع قانون المالية الذي قدمته لمجلس نواب الشعب دون أن تغضب اتحاد الشغل ؟

إننا أمام اختبار عملية ليّ ذراع لا سابقة لها ولا احد يعرف كيف ستكون مآلاتها .. ولسنا ندري هل قرأت قيادة اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية كل استتباعاتها السياسية أم لا ..أي إلى أي مدى سيذهب الأعراف في احتجاجهم على مشروع قانون المالية وعلى السياسات العمومية التي تسنده وهل أنهم مستعدون للذهاب بعيدا في إضعاف حكومة الشاهد أم سيكتفون بمعركة محدودة في الزمان والمكان..

يبدو أن الأدمغة المفكرة في القصبة قد قرأت حسابا لكل النيران الخصمة والصديقة في آن ولكنها لم تكن تتصور أن تصل درجة الغضب عند أصحاب المؤسسات إلى هذا الحد ولعل ذلك ما يفسر غياب الرّد الحكومي السريع على تصعيد الأعراف إذ يمكن تلخيص جلّ إجابات وزير المالية بـ «عندكم الحق أما منجموش نعملو حاجة أخرى» أي أن كل ما تقترحونه قد يوفر موارد إضافية لخزينة الدولة ولكن بعد سنتين أو ثلاث أو أكثر والحال أننا مضطرون لتعبئة هذا الكم من الموارد الذاتية عبر الجباية حتى لا نغرق البلاد في أتون التداين الخارجي..
وانتظرنا إلى حدود يوم أمس لكي نجد بداية إجابة عند رئيس الحكومة : أيادينا مفتوحة للنقاش ولكننا لا نعمل تحت التهديد...

الأرجح في تقديرنا أن تصعيد الأعراف إنما يقصدون به تعديل السياسة العمومية لا باتجاه تغيير جوهري لِمَا ورد بمشروع قانون المالية ولكن في اتجاه خرق «الخطوط الحمراء» المتعلقة بالتخفيض في الإنفاق العمومي وبالبحث عن موارد جديدة عن طريق الخوصصة الكلية أو الجزئية لبعض المؤسسات العمومية ..
ولكن ما لم يتطرق إليه الأعراف بما فيه الكفاية هو الشركات المنظمة والمتهربة جزئيا من دفع الضرائب عبر تقنيات متعددة ومعروفة دون أن ننفي حجم الصعوبات التي تعيشها العديد من المؤسسات الوسطى والصغرى..
كما اننا لم نتناقش إلى الآن في أشكال التشغيل الهش المستفحلة في عدة مؤسسات خاصة وهذا ما يضعف علاقة الشباب المنتدبين بالمؤسسة لانهم لم يعودوا يرون مستقبلهم فيها..

وهنالك إشكال أعم وأهم يتعلق بالقطع مع كل أشكال الاقتصاد الريعي المباشر و المقنع والذي يميز قطاعات أساسية في الاقتصاد الوطني..

لقد بين احتجاج الأعراف حجم الملفات المسكوت عنها في النقاش العمومي السياسي والإعلامي وأننا لم نعر إلى حد الآن الأهمية الكافية لهذه المواضيع الأساسية ..
فالمهم ليس في الانتصار لرؤية الأعراف او الشغالين أو الحكومة المهم هو طرح هذه الملفات جميعها على طاولة الحوار الوطني وأن نسلك جميعا الطريق الوحيدة الممكنة وهي تنشيط الاقتصاد وتطويره وتحريره من كل القيود والمعيقات الادارية ومن وضعيات الريع التي تتحكم فيه مقابل تقاسم فعلي للجهد الوطني لا الاكتفاء بترديد هذا الشعار دون ترجمته واقعيا..
الاساسي في كل هذا هو الا يكون الصراع حول مشروع قانون المالية كالشجرة التي تخفي الغابة..غابة الإصلاحات الضرورية..

المشاركة في هذا المقال