لمواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية هل يمكن الاكتفاء بمعالجة التوازنات المالية وانتظار عودة النموّ ؟

في كل يوم في تونس وفي كل مناسبة نتساءل جميعا : حكومة ونخب وشعب حول اقصر سبل وأنجعها للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تتهدد البلاد ومستقبلها ..وفي كل مرة لا نتوفق إلى إيجاد حلول عملية خلاقة فنكتفي على مستوى القول بترديد المقولات المطمئنة وعلى مستوى الفعل نستنجد دوما بنفس الوصفات القديمة : سنّ جملة من

الإجراءات للتشجيع على الاستثمار وانتظار انتعاشة تدريجية للنمو وفي الأثناء بعض الحلول الاجتماعية هنا وهناك كبيرة الكلفة المالية ولكن لا نكاد نلمس آثارها المادية المباشرة..
ماذا نقصد عندما نتحدث عن أزمة اقتصادية واجتماعية ؟

نقصد بداية أن آلتنا الإنتاجية والتي كانت تحقق على مدى عقود معدلات نمو ما بين %4 و%5 قد أصابتها عطالة فلم ننجز خلال هذه السنوات السبع إلا %1.6 كمعدل عام والنتيجة المباشرة (أو بالأحرى السبب المباشر) هو تعثر المؤسسة الاقتصادية وتراجع مردوديتها وإنتاجها من جهة وتفشي البطالة والتهميش من جهة أخرى ..ففي بعض مناطق البلاد تصل البطالة إلى حوالي ثلث السكان النشيطين وفي مناطق أخرى تتجاوز نسبة الفقر المتعددة الأبعاد نصف السكان !!

ما الحلّ ؟
انتظار عودة قطار النمو إلى سرعته السابقة بعد ثلاث أو أربع سنوات ؟ تكرار التدخلات الاجتماعية وبرامج التشغيل الهشة أو خلق مواطن شغل لا معنى اقتصادي لها كشركات البيئة والبستنة ؟
ورغم ذلك فالبلاد تنفق أكثر بكثير ممّا تنتج وهي بصدد الغرق في حجم مديونية قد تأتي على الأخضر واليابس خلال السنوات القليلة القادمة..

صحيح أن كل المقاربات الاقتصادية الكلاسيكية قائمة على فكرة أن الدولة توفر البنى التحتية وشروط الاستثمار وان القطاع الخاص يخلق الثروة والقيمة المضافة ومواطن الشغل ..

لو كانت تونس تحقق معدلات نمو تفوق %6 باستمرار لما كان لهذا النقاش من معنى لأنه مهما كانت قيمة هذا النمو ونوعيته فهو يخلق حتما تنمية ويخرج ضرورة فئات عديدة من البطالة والفقر والتهميش .. ولكن نحن مازلنا بعيدين جدّا عن وضع كهذا ، وقد لا نصل إليه – هذا إن
وصلنا – إلا بعد عقد من الزمن..

ويبقى السؤال : ماذا نفعل الآن ؟ علما وأن الدولة لن تكون قادرة على التشغيل في القطاع العام وان توازناتها المالية منخرمة للغاية بما يعني وفود أعداد اكبر على سوق الشغل في القطاع الخاص والحال أن جلّ مؤسساته تشكو من صعوبات ومن ديناميات نمو متواضعة ..
كيف الخروج من هذه الحلقة المفرغة ؟

لا وجود لحلول سحرية ،ولكن بالإمكان أن نفعل أفضل بكثير ممّا نحن بصدد فعله الآن. نحتاج في البدء الى الابتعاد عن كل المفاهيم الجاهزة والنظريات المسبقة فبلادنا تحتاج إلى أمرين اثنين قد يبدوان متناقضين ولكن منطقيا متضافران :

أولا : وضع المؤسسة الاقتصادية الخاصة في مركز الاهتمام والتشجيع والتشريع

ثانيا : سياسة إرادية لمحاربة التهميش والفقر والبطالة..

وحتى تتمكن الدولة من التفرغ للتخطيط ولتنفيذ السياسات العمومية الضرورية لابد لها من التخفيض الفوري من مديونيتها بما لا يقل عن خمس أو ست نقاط ومن تخفيض مستمر لنسق إنفاقها العمومي حتى لا تكون ميزانية الدولة عبئا على الآلة الإنتاجية وعلى المجتمع ككل..
لقد تحدثنا يوم أمس عن إحدى السبل المؤدية إلى التخفيض السريع للمديونية العمومية وهي الخوصصة الكلية أو الجزئية لبعض المؤسسات العمومية الضخمة فهذا سيوفر ما لا يقل عن 10 مليار دينار يمكن تخصيص نصفها لسداد مسبق للديون ذات الشروط المشطة أو الفوائض المرتفعة..ومع هذا مواصلة المشروع الحكومي لترشيد كتلة الأجور عبر التقليص من الانتدابات وإصلاح عميق للوظيفة العمومية بإعادة انتشار أعوانها عموديا (داخل الوزارة ذاتها عبر مختلف مصالحها الجهوية) وأفقيا (بين مختلف الوزارات) وبما أننا نطلب من المؤسسة الاقتصادية الخاصة مزيدا من الاستثمار والتشغيل وفتح الأفاق لأصحاب الشهادات العليا فلابد أن تكون سياساتنا العمومية كلها صديقة ومساندة للمؤسسة الخاصة دون خجل أو حرج وأن نخضع كامل ترسانتنا القانونية والإدارية لنبض حياة المؤسسة الخاصة وزمنيتها وأن ندرك أن اختصار الآجال في كل إجراء إنما هو دفع مباشر للاستثمار والتشغيل ..

ينبغي أن نقبل بأن نعطي كل شيء للمؤسسة الخاصة..كل شيء إلا وضعية الاحتكار والمورد الريعي كما هو موجود في أنشطة اقتصادية هامة كادت أن تصبح حكرا على بعض العائلات والمجموعات الكبرى..فالحرية الاقتصادية تتناقض مطلقا مع وضعيات الاحتكار ووضعيات الاحتكار هي التي حطمت بصفة نهائية المصعد الاجتماعي في بلادنا..

• مقاومة الفقر والتهميش والبطالة لا تكون بالتشغيل الوهمي (شركات البيئة والبستنة نموذجا) ولا بالإعانات الاجتماعية ..
لن نقاوم التهميش في معتمدية ما إلا لو خلقنا فيها مؤسسات اقتصادية قابلة للدوام والمنافسة والانتشار ..لقد تفاوضت الدولة مع محتجين في ولايات عديدة وكانت النتائج دوما تشغيل البعض في مؤسسات عمومية أو بترولية وتشغيل العدد الأكبر في شركات البيئة والبستنة وتوفير بعض اعتمادات للمشاريع الصغرى جدا..
لم لا نرى الدولة تقول لأبناء جهة مخصوصة بأنها مستعدة لتمويل مشاريع متوسطة وكبرى وانه على أبناء الجهة التقدم بمقترحات جدية وأن الدولة عبر بنك للجهات مثلا (كما نجد ذلك في المشروع الانتخابي لنداء تونس سنة 2014) مستعدة لتمويل عشرات المشاريع بقيمة قد تصل إلى مليون دينار للمشروع الواحد..
الفكرة الأساسية هي التالية : تقول الدولة لأبناء الشمال الغربي والوسط الغربي والجنوب وبقية المناطق المهمشة في البلاد بأنه من حق أبنائكم أن يصبحوا نساء ورجال أعمال ناجحين يسيّرون منشآت هامة ويديرون مئات الأجراء..
ينبغي أن نخلق حلم الثروة في هذه الجهات..فمن له جهد وطاقة وفكر وروح إقدام واجتهاد يمكنه أن يصبح ثريا في بلاده وأن يخلق ثروة فعلية وحقيقية في جهته..

• ويقع على عاتق الدولة أيضا بعث مشاريع ضخمة جدا في إطار عقود شراكة مع القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي ونقصد هنا بالتحديد المشاريع التي تغير وجه البلاد في العقود القادمة كبناء عاصمة إدارية جديدة خارج ولايات تونس الكبرى وبناء مدن جامعية تضم ما لا يقل عن أربعين أو خمسين ألف طالب والآلاف من الأساتذة والباحثين المتفرغين للبحث والتدريس وتحتوي هذه المدن على كل مرافق الحياة الأكاديمية والثقافية والترفيهية ..ومدينة جديدة حذو قفصة لسكان الحوض المنجمي حتى نفصل بين مواقع الإنتاج ومواقع السكن كما اقترح ذلك الصديق مختار بوبكر في احد أعداد «المغرب» ومحطات ضخمة للطاقة الشمسية في الجنوب التونسي ومدن للصناعات الثقافية (الكتاب والموسيقى والسينما..) مشاريع تغيّر الملامح العمرانية والتنموية لتونس في أفق ربع قرن..

هذا ما ينتظره التونسيون من قادة السياسة والرأي عندهم لا أن نبقى نتصارع في كل سنة على ضريبة جديدة أو الترفيع في الضرائب القديمة دون اقتراح أفق فعلي للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.قد يقول بعضهم بأننا أمام حلم لا واقع قابل للتطبيق..وجوابنا الوحيد هو أن الواقع الجميل اليوم في أي بقعة من بقاع الدنيا كان حلما قبل عقدين او ثلاثة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115