بعد إصدار الوثائق الثلاث الأساسية للمالية العمومية (مشروع قانون المالية لسنة 2018 ومشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2017 وتقرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018) هل يمكن أن نثق في تقديرات الحكومة لميزانية 2018 ؟ !

الأرقام تنتمي إلى كل العلوم النظرية والتجريبية بل لا يمكن الحديث عن علم لا نقدر على التعبير عن مضمونه دون المعادلات الرياضية..ولكن للأرقام استعمالات أخرى كذلك يريد السياسي بها، مثلا ،إقناعنا بدقة توجهاته وصرامتها فيستعملها في مواضعها وغير مواضعها ويبرز بعضها لأنها تتغنى بانجازاته ،حسب رايه، ويخفي أخرى خوفا من تملك خصومه لها ولكن في الأخير ينتصر الرقم ويمضي السياسي ..

من هذه الاستعمالات التوظيفية للأرقام ما أصبحنا نشاهده في جلّ قوانين المالية المقدمة إلينا والتي أضحت تحتاج في كل سنة إلى قانون مالية يعدلها ويصحح مبالغاتها وأوهامها ..وبدل أن يتعظ الساسة تراهم يعيدون الكرّة في السنة الموالية فيبالغون في فرضيات ويقللون من شأن بعض المخاطر أو الصعوبات من اجل «غلق» وقتي لمحاسبات الدولة مع علمهم بأنها ستحتاج هي الأخرى إلى تعديل وتصويب في إطار ميزانية تكميلية جديدة تحت شعار «الليقة تجيب»

كل سنة تقدم لنا الحكومة القائمة آنذاك ميزانية السنة المقبلة كمدخل ضروري لبداية الإصلاح..وفي كل سنة يتبين أننا أخطانا المرمى وأننا فاقمنا الإنفاق العمومي ومعه كذلك التداين العمومي وان ميزانية الدولة أضحت عبئا ثقيلا على الآلة الإنتاجية للبلاد وعلى المجتمع بأسره.
لقد قدمت لنا ميزانية سنة 2017 باعتبارها بداية الخلاص الفعلي من الحلقة المفرغة : زيادة غير عقلانية في الإنفاق العمومي فتداين مفرط فاقتراض جديد فإنفاق عمومي فتداين..

كان الهدف الأساسي في 2017 هو ترفيع نسبة الموارد الذاتية التي تردت إلى مستويات خطرة (%72 سنة 2016 مقابل %84 سنة 2010) وقد حدد الهدف آنذاك بالانتقال من %72 إلى %73.7 والى احتياجات للاقتراض بـ8.5 مليار دينار وبالتالي إلى نسبة تداين بـ%61.9 من الناتج الإجمالي المحلي .
نحن لسنا أمام أرقام جافة أو نسب نظرية.. نحن أمام حاضرنا ومستقبلنا المنظور فلقد اقتربنا كثيرا من مناطق الخطر المحدق بحكم تفاقم التداين الخارجي ودون عودة وعي جماعية وهبّة قوية وانصراف كلي ومطلق للعمل والإنتاج فقد نفقد سيادتنا الوطنية ونصبح دولة تحت الحكم الفعلي لصندوق النقد الدولي ولبقية المانحين لا كما هو الحال اليوم حيث مازلنا نمتلك ،ولو جزئيا، ناصية أمرنا..

كل الأرقام والفرضيات التي تم تسويقها في نهاية 2016 عند مناقشة قانون المالية لسنة 2017 قد ذهبت أدراج الرياح..

لقد زاد الإنفاق العمومي بأكثر من ملياري دينار وسوف نقترض 1.8 مليار دينار إضافي لكي نتمكن من غلق موازنة هذه السنة وهكذا سيكون حجم ديننا العمومي لهذه السنة بـ10.33 مليار دينار وهو رقم قياسي مخيف وشارفت نسبة مديونيتنا %70 (%69.6 تحديدا) وهي عتبة الخطر..وبالطبع لم نتمكن من بلوغ نسبة %73.7 من الموارد الذاتية للميزانية بل ارتددنا إلى %70 وهي أيضا نسبة خطر أخرى..

ما الذي دفعنا إلى هذا ؟ وكيف نفسّر انزلاق ميزانية الدولة بـ%7 كاملة ؟ !

والغريب أننا سنقتصد في هذه السنة أكثر من 600 مليون دينار وغنمنا زيادة في موارد الدولة الذاتية ب300 مليون دينار ولكن أنفقنا 600 مليون دينار إضافية في كتلة الأجور (لماذا ؟ لا ندري ؟ !) و900 مليون دينار في دعم المحروقات و1188 مليون دينار كسداد للقرض القطري (الأصل مع الفائدة) والذي قيل لنا بان دولة قطر وهي احد الرعاة لمنتدى 2020 ستؤجله إلى موعد لاحق..ولكن تمّ سداد الدين في افريل الماضي ولم نعلم به إلا بمناسبة اطلاعنا على الميزانية التكميلية لسنة 2017..

أما زيادة الدعم في المحروقات فلا تعود أساسا إلى تردي إنتاجنا بل إلى سوء تقديرنا لسعر البرميل (290 مليون دينار) ولتراجع سعر صرف الدينار (390 مليون دينار )

إذن لقد حصل هذا الانزلاق الخطير في ميزانية 2017 لأننا اعتمدنا على فرضيات مبالغة في التفاؤل وعلى تفهم «اخوي» من قطر وعلى سوء تقدير (متعمد ؟) لنفقات إضافية في كتلة الأجور..
يعني أننا أردنا أن نقدم «واجهة» جميلة تقول بأننا بصدد التحكم في مديونيتنا وفي إنفاقنا العمومي والحال أن النتائج الواقعية المحينة قد أثبتت أن هذه «الواجهة» وهمية وأن واقع المالية العمومية اليوم هو أسوأ بكثير ممّا كان عليه قبل سنة !!
والسؤال المنطقي والمحيّر في ذات الوقت هو هل تم إعداد التوازنات الكبرى لميزانية 2018 كما تم إعداد سابقتها أم لا ؟

هل اخترنا - مرة أخرى – فرضيات غير واقعية لتمرير هذا المشروع الذي يريد الحدّ من النسق الجنوني للتداين العمومي لتبلغ نسبته %71.4 فقط أم سنفاجأ في السنة القادمة وفي مثل هذا الوقت أن التداين العمومي قد تجاوز عتبة %75 وانه سيتم ،مرة أخرى،تحطيم الرقم القياسي لهذه السنة في حجم الاقتراض العمومي ؟ !
لا نريد مصادرة على المطلوب أو اتهام نوايا وزارة المالية ..نريد فقط أن تكون لبلادنا ميزانية جدية تلزم الدولة بحجم الإنفاق المتفق عليه وتكون فرضياتها واقعية حتى لا نفاجأ بتغيرات وتقلبات الأسواق العالمية..

ينبغي أن نصارح أنفسنا : هل بإمكاننا التحكم في النسق الجنوني للمديونية العمومية فقط من خلال النمو الكلاسيكي لموارد الدولة الذاتية وللنمو المرتقب ؟ ألا ينبغي التفكير جديا في مقاربة شجاعة نخفض بها بصفة ملموسة من المديونية وهذا لن يكون إلا بخوصصة كلية أو جزئية لبعض كبريات مؤسساتنا العمومية ونحن نعلم ما جنته خزينة الدولة من الخوصصة الجزئية لاتصالات تونس دون أن تفقد هذه المؤسسة صفتها كمرفق عمومي ..

لماذا لا نقدم على إدخال شركاء استراتيجيين في مؤسسات عمومية ضخمة كالتبغ والوقيد أو الشركة التونسية للبنك أو الخطوط الجوية التونسية وأن نستعمل نصيبا من مليارات الدنانير هذه لخلاص الديون ذات الفائدة المشطة وهكذا نصيب عصفورين بحجر واحد : تقليص جدي في نسبة المديونية وإعطاء نفس جديد لهذه المؤسسات أو لغيرها..
تأخير القرارات الشجاعة لا يزيد الأوضاع إلا تعقيدا وسياسة «الليقة تجيب» لا يمكنها أن تستمر لأنها تضرب في العمق مصداقية البلاد وسمعتها عند أهم شركائها..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115