Print this page

بعد أن استحال للمرة الثانية التوافق على رئيسها: هيئة الانتخابات وتواصل الأزمات

للمرة الثانية في ظرف يومين لم تتمكن الكتل المكونة لمجلس نواب الشعب من التوافق على الرئيس الجديد لهيئة الانتخابات رغم أنه كان يكفي حصول أحد المترشحين الستة في الدورة الأولى والاثنين في الدورة الثانية على 109 أصوات والحال أن نفس

هذه الكتل قد تمكنت قبل أيام قليلة من التوافق على ترميم الهيئة بعضوين جديدين. وهذا التوافق كان يفترض آنذاك حصول المترشحين على ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب أي 145 صوتا !!

فما الذي يسّر الـ 145 صوتا وعسّر الـ109؟ !

منذ حوالي 5 أشهر وتحديدا منذ يوم 9 ماي الفارط والهيئة العليا المستقلة للانتخابات تعيش على وقع أزمات متتالية بدأت باستقالة رئيسها شفيق صرصار واثنين من أعضائها مرورا بأزمة الترميم التي لم تنته إلا في الأسبوع الفارط وصولا إلى أزمة الرئاسة المتواصلة أمام أعيننا والتي لا ندري متى سيتم وضع حد لها.

ويكفي أن نعلم أنّ من النتائج المباشرة أو الجانبية لهذه الأزمة تأجيل موعد الانتخابات البلدية وهذا في حد ذاته حدث جلل ولكنه مر مرور الكرام أو يكاد..

استقالة رئيس هيئة الانتخابات لم تكن استقالة عادية بل رافقها الاتهام المبطن لشفيق صرصار لبقية الأعضاء (وتحديدا خمسة من أصل ستة) لا فقط بالتآمر عليه بل وبالمس من القيم الأساسية الضامنة لانتخابات حرة ونزيهة وشفافة.. وأوحى صرصار بأن مناوئيه داخل الهيئة قد يكونون واقعين تحت تأثير أحزاب بعينها بعضها لا مصلحة له في إجراء الانتخابات البلدية في موعدها المحدد منذ الربيع الماضي..

لسنا ندري هل قرأ الرئيس المستقيل للهيئة بمعية العضوين الآخرين اللذين تبعا خطاه كل التداعيات الممكنة لهذه الاستقالة ولهذه الاتهامات ام لا ؟ ولكن الواضح انه قد تم المساس من هيبة الهيئة ومن استقلاليتها منذ تلك الفترة بل وأصبحت الهيئة ، موضوعيا، في يد الأحزاب السياسية وحساباتها مادامت هي المتحكمة عبر كتلها النيابية في مسالة سدّ الشغور..

إن المقايضة التي أقدم عليها البعض (نتوافق على سد الشغور مقابل تأجيل الانتخابات ) لا تشرف الديمقراطية التونسية الناشئة وكذلك محاولة تقزيم دور الهيئة إلى الأقصى واعتبارها مجرد هيئة تقنية لا تتدخل في تحديد موعد الانتخابات بل تتولى فقط انجاز ما تتفق عليه الأحزاب. هي ضربة أخرى لهيئة كانت - ونأمل أنها مازالت – إحدى المفاخر الأساسية للانتقال الديمقراطي في تونس..

وهكذا تمكنت الأحزاب ،بقصد أو بغير قصد ،من التحكم في الهيئة وفي توازناتها الداخلية وتم تصنيف جلّ أعضائها بالعلاقات «الموضوعية» التي تربطهم بهذا الطرف أو ذاك..ولنراهن بأن مسلسل الابتزاز هذا لن يتوقف لا في انتخاب رئيس الهيئة ولا في التجديد الثلثي لأعضاء مجلسها القادم بعد أسابيع قليلة..

لا يشكك احد في أن مجلس نواب الشعب هو الذي ينتخب أعضاء هيئة الانتخابات وكل أعضاء الهيئات الدستورية الأخرى ولكن الدستور أراد لهذه الهيئات أن تكون خارج مصالح الأحزاب وتحالفاتها الإستراتيجية أو الظرفية إذ تشترط لانتخاب هيئة الانتخابات أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان والنية هنا واضحة أي أن يجعل من هؤلاء الأعضاء غير خاضعين لابتزاز أحزاب الحكم ثم إن لهؤلاء الأعضاء ولاية واحدة غير قابلة للتجديد حتى لا يخضع أي واحد منهم لمصالح حزبية ظاهرة أو خفية طمعا في إعادة انتخابه..

ومنطق الدستور يقتضي بألاّ يتم إخضاع الهيئات الدستورية لأي ابتزاز كان وإن كان ابتزاز كل الكتل النيابية مجتمعة ..

ثم إن الوضع الذي عليه هيئة الانتخابات بعد استقالة رئيسها كان يفرض أخلاقيا وسياسيا على كل الأحزاب مجتمعة سرعة الترميم ووضع الهيئة ، من جديد ، في المسار الصحيح : أي هيئة عليا ومستقلة ولهاتين الكلمتين معان واستتباعات لابد من احترامها حتى لا نستصغر هذه الهيئة وندفع بأعضائها إلى البحث عن «حماية» ما ..فهذا مخالف لروح الدستور ومضر بالعملية الديمقراطية ..

لا يهم اليوم من سيكون رئيس الهيئة المهم فقط ألا نحدث علاقة تبعية بينها وبين المنظومة الحزبية وان نجنبها الخلافات والحسابات الطبيعية عند الأحزاب ولكن هذه الهيئات إنما وضعت لضمان استقلالية المسارات الأساسية للانتقال الديمقراطي كالعملية الانتخابية أو القطاع السمعي البصري أو مكافحة الفساد..

فإذا كان من شروط المحاكمة العادلة سرعة آجال التقاضي فإن من شروط استقلالية الهيئات الدستورية أن يتم انتخاب أعضائها ورئيسها دون لغط وحسابات وعمليات لي ذراع بين الأحزاب وفي الآجال التي يفرضها القانون على عكس ما حصل في اول تجديد ثلثي لهيئة الانتخابات إذ تأخر أكثر من سنة عن موعده المضبوط دستورا وقانونا..

كم هو شاسع الفرق بين التعددية الحزبية الضرورية لكل ديمقراطية وحكم مناورات القيادات الحزبية المؤذن بخراب الأحزاب والديمقراطية معا !!

المشاركة في هذا المقال