عندما تقول الكلمات أضدادها: مصالحة مع الموظفين أم عفو عام على كل التجاوزات على امتداد نصف قرن ؟ !

يعيش العالم كلّه اليوم تحت ما يسمى بالحقائــــــق البديلــة
«Les vérités alternatives»
أي بعبارة أوضح منظومة لا تنتمي في جوهرها للحقيقة وإن أخذت

بعض أشكالها في بعض النقاط وهي تحاك بدقة ويتم ترديدها كثيرا في بعض وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي حتى يخيل لك أنك فعلا أمام الحقيقة وأن ما سواها كذب وبهتان..

نحن نعيش على واقع «حقيقة بديلة» منذ حوالي ثلاث سنوات مفادها أن أزمة تونس الاقتصادية والاجتماعية لا تعود إلى عجز الساسة أو سوء تدبيرهم بل إلى المعارضة الصامتة للإدارة التي ترفض تطبيق الأوامر وتعطل كل المشاريع..فالموظفون المعنيون بالإمضاء على الرخص والصفقات العمومية وكل وثيقة من شانها إلزام الدولة بالانفاق أو جلب منفعة – ولو كانت مشروعة – للفاعلين الاقتصاديين ولعامة المواطنين ..هؤلاء الموظفون أضحوا يرفضون الإمضاء على أية وثيقة بحجة أن من امضوا في السابق (أي عهد بن علي) قد تمت محاكمتهم بمقتضى الفصل 96 الشهير من المجلة الجزائية والذي يحكم على كل موظف عمومي أو شبهه بالسجن لمدة 10 سنوات عندما يخالف التراتيب والقوانين الجاري بها العمل ويحصل جراء هذه المخالفة منفعة للغير أو لنفسه..

ومادام هؤلاء الموظفون وأشباههم كانوا يشتغلون تحت نظام حكم استبدادي ،فقد وجد النزهاء منهم أنفسهم تحت طائلة هذا القانون لا لرشوة أو اختلاس بل لمجرد إمضاء اضطروا إليه تحت الضغط..

إذن لإنقاذ الاقتصاد ولتحرير الإدارة من سيف ديمقليس المسلط على كل هؤلاء الموظفين وأشباههم جاء مشروع قانون المصالحة في المجال الإداري ليقول لهم بكل وضوح في فصله الثاني بأنهم لم يعودوا موضوعا لتتبع قضائي ما لم تثبت عنهم جريمتا الارتشاء أوالاختلاس وحتى من اتصل به القضاء فبإمكانه استخراج وثيقة عفو من لدن الوكيل العام للجمهورية.. وبهذا تنطلق تونس حرة طليقة ونسجّل - وفق تقديرات الوزير مدير الديوان الرئاسي – نموا إضافيا في الناتج المحلي الإجمالي بـ %1.2..

الفلسفة العامة التي تقوم عليها هذه «الحقيقة البديلة» تقول بأن منظومة الفساد كانت منحصرة فقط في شخص بن علي وعائلته وان الإدارة لم تتورط فيها بصفة هيكلية بل اضطرت اضطرارا إلى التعامل معها خوفا من بطش الحكم العائلي المافيوزي لبن علي ..

قد يكون هذا صحيحا بالنسبة لبعض الأفراد ولكن تعميمه بهذه الطريقة هو استغفال للعقول إذ نعلم جميعا أن بعض الموظفين وأشباههم مركزيا وجهويا ومحليا كانوا يستبقون منظومة الفساد هذه ويعرضون عليها «الأفاريات» من أراضي فلاحية تباع بأبخس الأثمان ثم تحول صبغتها بقرار إداري ومن رخص مختلفة مقابل امتيازات مادية أو عينية ..

يكفي أن نعلم أن أنصار «الحقيقة البديلة» لم يتمكنوا خلال هذه السنوات الثلاث من تقديم ولو نموذج واحد لموظف رفض الإمضاء على وثيقة تعطي لطرف ما فائدة دون موجب حق وتعرض نتيجة رفضه هذا إلى مظلمة تذكر..

ونحن نعلم أن مسألة الإمضاء الاضطراري إنما تهم في النهاية بعض عشرات الموظفين العموميين وأشباههم على أقصى تقدير ..فلم العفو المسبق على هذا الجسم والحال أن من أمضى على وثيقة جنى منها الغير منفعة يعلم علم اليقين ، حينما أمضى ، بأنه مخالف للقانون ومعرّض، اليوم أو غدا، لتتبع قضائي بحكم الفصل 96 ؟ !.. هذا الفصل الذي حوكم به بعض الموظفين وأشباههم منذ نهاية الحكم البورقيبي ..

إذن ما هي الغاية الأساسية من هذه «الحقيقة البديلة» التي سيتضح زيفها في الأسابيع والأشهر القادمة ؟..

الغاية الوحيدة وراء هذا التسريع والتسرع ليست «مصالحة» مع من يستحقها من الشرفاء الذين لم يقبلوا برشوة أو بامتيازات غير مستحقة..الغاية الوحيدة هي الغلق النهائي لمسار الثورة التونسية بتعطيل آلية العدالة الانتقالية (ولا نقول هيئة الحقيقة والكرامة) أي مسار الاعتراف فالمساءلة والمحاسبة وبعد ذلك المصالحة..مسار علني نتمكن من خلاله من فهم آليات اشتغال منظومة الفساد التي نخرت ولا تزال البلاد..أما عندما نقفز على كل مراحل العدالة الانتقالية لنذهب مباشرة ودون تثبت مسبق إلى «المصالحة» فنحن إنما نقول بهذا أن كشف الحقائق لم يعد يعنينا وأن آليات التفريط في الملك العام وفي إسناد المنافع لغير أهلها لا تهم..فالمهم هو استرجاع كامل هذا الجهاز (وخاصة على المستويين الجهوي والمحلي ) وتأمينه من كل تتبع قضائي حتى نحصل على ولائه بالمطلق لصناع القرار الجدد..

إن تقديم هذه «المصالحة» باعتبارها انتصارا لقيم التسامح ولنبذ الحقد والبغضاء وانتصارا لتونس ضد دعاة «الثورجية» إنما هو عين إنكار الواقع ونسيان مبكر للعوامل التي أشعلت الثورة التونسية والتي يمكن أن نلخصها في أمرين اثنين : الفساد والإفلات من العقاب ..بل ويمكن أن نلخصها فقط في عنصر «الإفلات من العقاب» وغريب أن تدّعي سلطة حاكمة اليوم بأنها تريد شن حرب على الفساد وفي ذات الوقت تشرع للإفلات من العقاب .. فهل الفاسدون زمن بن علي اقل فسادا من الفاسدين اليوم ؟ !

لا نعتقد بأن كل من صوتوا على مشروع القانون هذا إنما فعلوا ذلك لتمكين بعض الفاسدين من الإفلات من العقاب ..بل نعتقد أنهم فعلوا ذلك لأنهم سقطوا ضحية هذه «الحقيقة البديلة» فغابت عنهم أبجديات صورة الفساد في البلاد وانتصروا لمخيال إيديولوجي ضد المخيال الثورجي المهرج..
المسألة اليوم ستكون لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين حال اتصالها بعريضة الطعن التي سيقدمها نواب المعارضة..

ورجاؤنا أن يُستعمل هذا الوقت لنثوب إلى رشدنا ولننظر في تناسق أعمالنا وتشريعاتنا ،هذا لو أردنا فعلا محاربة الفساد وإنقاذ البلاد..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115