في كيمياء التحوير الوزاري

وأخيرا وضع يوم أمس حدّ لمسلسل التحوير الوزاري بإعلان رئيس الحكومة، من قصر قرطاج، التشكيلة الكاملة للوزراء الجدد.. تشكيلة يريد من ورائها خلق «حكومة حرب» لكسب التحديات الثلاثة الكبرى المطروحة على البلاد: الفساد والإرهاب وتردي الأوضاع الاقتصادية وخاصة المالية للدولة... والسؤال الأبرز هل خرج يوسف الشاهد أقوى أم أضعف من

عملية لي الذراع متعددة الأبعاد التي خضع لها طيلة هذه الأسابيع الأخيرة وهل انتهى الصراع بينه وبين الحزبين الأساسيين في التحالف الحكومي أم لا ؟..
الأكيد أن الاجابة الكاملة عن هذه الأسئلة ستأتينا بها الأيام القادمة ولكن التركيبة الجديدة للحكومة حاملة لدلالات سياسية هامة يمكن أن نحوصل أهمها في النقاط التالية:

• عدم خضوع يوسف الشاهد للابتزاز الممنهج لحزبي الحكم الأساسيين: النداء والنهضة وذلك باختياره التفاوض أساسا مع رئيس الجمهورية والقبول بجانب من تحكيمه ووضع مسار التغيير الحكومي تحت حمايته الشخصية والمؤسساتية.. وهذا سمح للشاهد بهامش هام من المناورة مع حزبي الحكم ووضعهما في أحيان عديدة أمام الأمر المقضي..
وقد تجلت هذه الاستراتيجيا في عدم الرضوخ للقيادة الحالية للنداء التي كانت متمسكة بابعاد ما تسميه بـ «ناكر ونكير» (أي اياد الدهماني والمهدي بن غربية) وما تضيف اليهما من «سوء التدبير والتقدير» ووصفهما بـ «الوسواس الخناس» الذي يوسوس في صدر الشاهد للانقلاب على حزبه..
ثم إن رأس بن غربية كان مطلوبا أيضا من حزب آفاق تونس الذي يرى فيه رمزا من رموز الفساد..
ولكن يوسف الشاهد تمسك بهما واعتبر أنهما لا يدخلان في باب التفاوض..
كما أصر رئيس الحكومة على إبعاد أنيس غديرة الوزير الندائي السابق للنقل والمقرب جدّا من حافظ قائد السبسي وحصل له ما أراد ولكن في المقابل قبل بعودة سليم شاكر إلى الحكومة وهو أيضا ندائي محسوب على شق نجل الرئيس..

• التقزيم المعنوي لحركة النهضة:
لقد حافظت حركة النهضة على وزرائها ولكنها تلقت في الأثناء ضربات تكتيكية قوية جعلت من هذه الأسابيع الأخيرة من أسوإ الأسابيع للنهضة منذ سنة 2013..
فالنهضة أرادت في بيان رسمي أن يقتصر التحوير الوزاري على سدّ الشغورات فقط فكان التغيير عميقا وقد أرادت كذلك التصدي لتعيين آمر الحرس في منصب وزير الداخلية فلم تتمكن من ذلك وأخيرا لم ترد اعفاء أمينها العام زياد العذاري من الوزارتين اللتين كان على رأسهما: الصناعة والتجارة فلم يكن لها ما تريد.. ونضيف إلى كل ذلك الهجومات المعاكسة والقوية التي أضحى يشنها رئيس الجمهورية منذ بداية شهر أوت الماضي على الحركة الاسلامية وآخرها ما جاء في حواره لجريدة «الصحافة اليوم» والذي قال فيه بالحرف الواحد في تعليقه على تشريك النهضة في الحكم: «هي قبلت وليس بشروطها، وقلنا على الأقل نساهم بذلك في جلبها إلى خانة «المدنية» ولكن يبدو أننا أخطأنا التقييم» وهذه من أشد الانتقادات التي يوجهها رئيس الجمهورية إلى حركة النهضة منذ الحملة الانتخابية لسنة 2014..
ورغم كل ذلك فقد قبلت النهضة بالتحوير الوزاري وأعلنت أنها ستمنح ثقتها للوزراء الجدد.. ولكن الواضح أن شيئا ما قد تغيّر في العلاقة الحميمية بين «الشيخين» وأن حركة النهضة تدعى بقوة من قبل القصر للدخول في «الصف» دون كبير نقاش..
ومع ذلك نلاحظ الرضا الواضح على أداء الوزير النهضوي عماد الحمامي ومنحه حقيبة وزارية هامة: الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة بعد وزارة التكوين المهني والتشغيل..

• عودة عبد الكريم الزبيدي إلى وزارة الدفاع:
يمكن أن نعتبر أن اقناع وزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي بالعودة إلى العمل الحكومي من جديد بمثابة المكسب الهام لحكومة يوسف الشاهد..
يبدو أن الجملة التي أقنعت السيد الزبيدي هي ما قاله له رئيس الجمهورية «توة معقول أنا مازلت نخدم وأنت متقاعد؟!»..
عبد الكريم الزبيدي سيكون في مجال يتقنه تماما وهو يحظى باحترام كبير داخل المؤسسة العسكرية وتميّز خلال فترة الترويكا بقوة شخصيته وبعدم انصياعه لمحاولة وضع اليد على الجيش من قبل رئيس الجمهورية آنذاك المنصف المرزوقي..
شخصيات جديدة تدخل للحكومة لأول مرة كفوزي عبد الرحمان نائب رئيس آفاق تونس في حقيبة التكوين المهني والتشغيل وفوزي عبد الرحمان من السياسيين القلائل الذين يجمعون بين عمق التكوين السياسي ووضوح الرؤيا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وسيكون من المهم متابعة تجربته كوزير هذه المرة..
لطفي براهم، آمر الحرس الوطني، سيكون بدوره أمام تحد جديد وهو قيادة أهم وزارة في تونس، الداخلية.. فالرجل قادم من سلك أظهر كفاءة واقتدارا كبيرين في مكافحة الإرهاب وكذلك في تشديد الخناق على بعض لوبيات التهريب، والمطلوب منه اليوم قيادة وزارة الداخلية لربح هاتين المعركتين معا..
عمر الباهي، كاتب الدولة لدى وزير الفلاحة السابق، أسندت له وزارة جدّ حساسة وهي وزارة التجارة..
عمر الباهي ترك انطباعات طيبة في مهمته السابقة وهو اليوم أمام تحد كبير: اصلاح حوكمة المسالك التجارية الداخلية والتحكم في عجز ميزاننا التجاري كذلك..
خالد قدور، وزير الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة، يأتي لوزارة يعرفها جيّدا وهو الخبير المشهود له بكفاءة عالية في هذا المجال ويُنتظر منه الكثير لا فقط من الناحية التقنية بل وأساسا لطمأنة المستثمرين الأجانب ولضمان استرجاع نسق الاستكشاف والانتاج الذي تراجع كثيرا في هذه السنوات الأخيرة..

• تنازلات لنداء تونس:
عدم خضوع يوسف الشاهد لابتزاز حزبه صاحبته تنازلات يعتقد أنها محسوبة لفائدته منها تعويض الوزراء الندائيين المغادرين الثلاثة (الناجي جلول ولمياء الزريبي وأنيس غديرة) بوزراء ندائيين أو محسوبين عليه: محمد رضا شلغوم وحاتم بن سالم وسليم شاكر وخاصة وزير النقل الجديد رضوان عيارة المحسوب بوضوح على حافظ قائد السبسي..
ولكن بغض النظر عن تقييم الوزراء وزيرا وزيرا فالأساس يبقى في طريقة اشتغال هذا هذا الفريق الجديد وهل سيكون متجانسا ومتضامنا أكثر من الفريق السابق أم سيبقى جلّ الوزراءمهتمين فقط بوزاراتهم وولاء المتحزبين منهم لأحزابهم أم أننا سنكون فعلا أمام «حكومة حرب» كما يريدها يوسف الشاهد تقدم على الاصلاحات الجريئة متلاحمة متضامنة دون حسابات الربح والخسارة السياسيين؟..

لنقرض هذا الفريق الجديد قرضا حسنا في انتظار نتائجه الملموسة في الميدان..
والواضح على كل حال أن هذه هي فرصة الأمل الأخير لمنظومة الحكم الحالية ونحن في بداية النصف الثاني من عهدتها الانتخابية... فبعد رئيسي حكومة وتغيير وزاري شامل لكل منهما لم يعد بالامكان فرصة جديدة: فإما النجاح أو الرحيل للجميع.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115