حرية المعتقد والضمير والدين والجسد: تونس وثورة الحريات الفردية

الإعلانات الرئاسية ليوم 13 أوت الجاري تمحورت في تقبلها ، وطنيا وعربيا ودوليا حول المساواة في الميراث والسماح للتونسية بالزواج من الأجنبي بغض النظر عن ديانته..ولقد حجبت هذه الإعلانات الجريئة

وغير المسبوقة في الفضاء العربي ما هو أهم وأعمق منها: ميثاق الحريات الفردية الذي أشار إليه رئيس الدولة في السنة الفارطة وأعاد التأكيد عليه في عيد المرأة لهذه السنة وكلف اللجنة التي شكلّها بالتفكير فيها وبتقديم مقترحات تشريعية لإدراج هذه الحقوق الجديدة في منظومتنا القانونية..

سوف نستعمل كمترادفين مفهومي الحريات والحقوق إذ الحق في المنظومة القانونية الحديثة يتأسس على حرية معينة فردية كانت أم جماعية ..فالحريات تشير إلى الجوانب الفلسفية والقيمية والحقوق الى تجسيداتها الدستورية والقانونية..

ما الذي يبرر اليوم في تونس الحديث عن الحريات الفردية ؟ وهل يوجد في ترسانتنا القانونية ما يناقض هذه الحريات ويضادها أم لا ؟

لكل أصحاب نظرية «موش وقتو» نقول بان وضع ميثاق أو مجلة للحقوق والحريات الفردية هو استحقاق دستوري إذ نجد في الفصل 21 -وهو أول فصل في الباب الثاني من الدستور- المخصص للحقوق والحريات ما يلي : «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون من غير تمييز .تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة وتهيئ لهم العيش الكريم»

الواضح أن الدستور التونسي أراد أن يؤسس كل الحقوق والحريات على مقاربة جندرية.أي أن الحقوق والحريات تتأسس ضرورة على المساواة التامة ودون تمييز بين المواطنين والمواطنات من جهة ..وان هنالك بعدين في الحقوق والحريات وهما البعد الفردي والبعد الجماعي وان ضمان الحقوق والحريات بهذه المعاني يساهم في إرساء العيش الكريم.

قلنا في مناسبات عديدة بان الحقوق الفردية هي الضحية الأولى في الفكر العربي التقدمي إذ يؤكد هذا الأخير على الحريات والحقوق العامة ويصمت ، في مجمله ، عن الحقوق والحريات الفردية إن لم يضادها تحت مسميات مكافحة التغريب والهيمنة الثقافية الامبريالية..

فالحريات الفردية هي عقب أخيل (Talon d’Achille) الفكر العربي التقدمي فما بالك بالمحافظ أو السلفي الرجعي لأنها تؤسس لاستقلالية الفرد فلسفيا ولا لإفلاته أخلاقيا وقانونيا من قبضة الجماعة ..

فالحرية الفردية هي كل حرية تتعلق بالفرد بغض النظر عن حياته الاجتماعية..وهي تتعلق ببعدين جوهريين : حرية الضمير وحرية الجسد.

صحيح أن الدستور التونسي قد كفل حرية الضمير في فصله السادس ..ولكنه كفلها ضمن صياغة لغوية مفتوحة على كل التناقضات الممكنة : «الدولة راعية للدين ، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية ، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي .تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها ،كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف والتصدي لها».

لقد ألزم المؤسسون الدولة بحماية حقوق كثيرا ما تتناقض على ارض الواقع كـ «حرية المعتقد» و«حماية المقدسات» وخاصة «منع النيل منها» .

فالمرجع الدولي لحرية الضمير هو المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي ينص على التالي : «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته، أو عقيدته ،وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرّا أم مع الجماعة».

فالفوارق كما ترون كبيرة بين التعريف الفضفاض والمتناقض للفصل السادس من الدستور وتنزيل حرية الفكر والمعتقد في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فلا معنى لحرية الضمير دون أن يكون للفرد الحق في اعتناق الديانة التي يريد والحق في تغييرها والحق في عدم اعتناق أي دين وكذلك الحق في التعبير عن معتقده الديني أو الفلسفي والحق في إقامة شعائره سرا وعلانية اي في إطار مسجد او كنيسة أو بيعة أو أي صنف من أصناف دور العبادة..

إذن نحن أمام حق اقره الدستور لفظا ولكن وضع صيغا تفرغه تماما من مضمونه إذ يصبح التعبير عن تغيير الدين مثلا كنيل من المقدسات إذ أراد الفرد الخروج من الإسلام واعتناق ديانة أخرى أو تبنى موقفا فلسفيا لا دينيا أو إلحاديا كما أن الدستور يضمن «ممارسة الشعائر الدينية» ولكن المعنى الضمني واضح : أي الشعائر الدينية الإسلامية أو شعائر أهل الكتاب وهكذا قد يصبح الخروج عن الإسلام لاعتناق البوذية أو الإلحاد نيلا من المقدسات التي يرعاها الدستور..

صحيح انه يمكن قراءة الفصل السادس باعتبار الدين شاملا لكل معتقد ديني أو فلسفي ولكننا نسقط سريعا في تناقض آخر غير مقبول إذ هل سنطالب الدولة على هذا الأساس بمنع النيل من كل مقدس ديني ؟ !

قد يظن بعض أصحاب نظرية «موش وقتو» وهذي ما هياش مشاكل تونس» إننا نتحدث عن فرضيات نظرية لا وجود لها في واقعنا الملموس والعكس هو الصحيح إذ نعلم أن الآلاف من التونسيين على أقل تقدير قد غادروا المعتقد الإسلامي وتبنوا ديانات أخرى كالمسيحية أو البهائية أو الأحمدية (القاديانية) أو غيرها من الديانات كما أن هنالك مئات الآلاف من التونسيين على اقل تقدير أيضا لا يتبنون أي معتقد ديني ولهم آراء فلسفية لا دينية أو الحادية..فهل يحق لكل هؤلاء أن يعبروا عن معتقداتهم أم لا وهل يحق لهم ممارسة الشعائر التي يرتضونها أم لا؟ عندما نعلم ردود الفعل العنيفة تجاه الذين تشيعوا (أي أصبحوا شيعة) ندرك مدى حدود التسامح الديني في بلادنا..

نحن أمام خيار حضاري استراتيجي : ضمان حرية المعتقد والضمير بصفة جدية وحمايتها قانونيا آم الإقرار اللفظي بها والافتئات عليها قانونيا وسياسيا بمقتضى قراءة محافظة وملؤها الخوف على «دين البلاد»..

الأرجح أننا سنواصل في سياسة «لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي» وفي التوفيق بين مقتضيات فلسفية متناقضة لنكون دوما في غرب الشرق وفي شرق الغرب دون اختيار حضاري واضح وحاسم ..

الباب الثاني الكبير في الحريات الفردية هو حرية الجسد
لا نبالغ إن قلنا بان كل الحضارات البشرية او غالبيتها الساحقة على الأقل قامت للسيطرة على الجسد وعلى نزواته ..الفروق كانت في استراتيجيات السيطرة لا غير وخاصة عندما يتعلق الأمر بجسد المرأة فهي مصدر الشرور والآثام لأنها مصدر الغواية والإغراء وموضوع لذّة الرجل لا غير ..
يمكن أن نقرا تاريخ الشعوب والثقافات من خلال استراتيجيات التحكم في الجسد والحداثة الغربية ،بداية ،فالكونية اليوم كمسارات متعددة ولكنها متضافرة لتحرر الفرد وبالتالي لتحرر الجسد..

وعندما نتحدث عن الجسد فنحن لا نتحدث فقط عن الجنس ،أو على الأقل لا نتحدث عن الجنس كممارسة لعلاقة ما بين شخصين ، نحن نتحدث عن حرية الفرد في جسده،ونؤكد في جسده لا في جسد غيره ، وهذه الحرية تتوزع على جملة من الحريات بعضها متعلق بالجنس وأخرى بالملبس والمأكل وجوهرها كرامة الجسد وحرمته وعدم تعريضه من قبل الدولة أو الجماعة أو الأفراد إلى كل ممارسة مهينة له ..

والدولة أي القانون تسعى لحماية الجسد من كل السلوكات الخطرة لصاحبه : الإدمان بأصنافه والتعذيب الذاتي والانتحار ..

وفي تخوم هذه الحريات حرية اختيار شريك الحياة وحرمة الفضاء الخاص..

الدولة في النظم الديمقراطية الحديثة واليوم عندنا كذلك تحمي الجسد من كل اعتداء سواء كان ذاك في الفضاء الخاص او العام كما تحمي الطفولة من العنف المادي والجنسي للكبار ولكنها لا تتدخل في علاقة اختيارية بين راشدين سواء أكانا من نفس الجنس أم لا ..وهنا تأتي الأسئلة الكبيرة والاختيارات المجتمعية المصيرية : ما هي حدود الحرية الجنسية للفرد الراشد ؟ وهل بالإمكان أن نشرّع لها ؟ ووفق أية منظومة قيمية ؟

فهل نعتبر العلاقات المثلية حرية فردية ما دامت قائمة بين راشدين وبصفة اختيارية أم لا ؟ القانون الجزائي التونسي يجرّم المثلية الجنسية اليوم والمنظومة الحقوقية الدولية تعتبر المثلية توجّها جنسيا لا دخل للدولة فيه ..فهل سنواصل في اختيارنا القديم مع كل ما يعنيه من اعتداء على حرمة الحياة الخاصة للمواطنين والمواطنات ام سنختار الانخراط كلية في المنظومة الحقوقية الحديثة..

الأرجح مرة أخرى أن نسلك طريقا بين بين كأن نلغي النصوص القانونية التي تجرّم المثلية دون تعويضها بنصوص تبيحها كحق فردي..

نفس الأمر يتعلق بالعلاقات الجنسية بين راشدين من جنسين مختلفين وخارج إطار الزواج : هل هي جريمة يعاقب عليها القانون أم حق يضمنه التشريع ؟ وهل سنميز بين الراشد الأعزب والمتزوج أم لا ؟ أي هل سنواصل في تجريم ما نسميه بالخيانة الزوجية أم لا ؟

أسئلة كبيرة تطرح على مجتمعنا ، وفي الحقيقة على كل مجتمع وقد تجنبنا إلى حد الآن الخوض فيها على مستوى النقاش الوطني العام وبكامل استتباعاته القانونية ..

لقد اختارت بلادنا إلى حدّ الآن مقاربة قانونية محافظة وزجرية لما تعتبره علاقات جنسية شاذة أو خارج إطار القانون دون ان يكون الزجر في قساوة تشريعات العديد من الدول العربية الأخرى..

ومع هذا فقد طوّر المجتمع جملة من السلوكيات في المدينة والريف على حد السواء خارجة عن التأطير القانوني المحض للمباح وبعض هذه السلوكيات لها نوع من المقبولية في أوساط معينة..

هل حان الوقت لكي ننظر لأنفسنا أمام المرآة ؟ لكي نبتعد عن النفاق الاجتماعي والأخلاقي بحجّة «إذا عصيتم فاستتروا»؟ !

أسئلة جوهرية عديدة مطروحة اليوم على اللجنة التي شكلها رئيس الجمهورية للبحث في مسائل المساواة والحقوق الفردية التي ترأسها البرلمانية والناشطة النسوية والحقوقية الأستاذة بشرى بالحاج حميدة ..ونعتقد أن منهجية عمل هذه اللجنة لن تقل أهمية عن مخرجاتها ومقترحاتها إذ هي مطالبة اليوم بتأطير النقاش الوطني حول هذه المواضيع الحساسة وأن تكون منصتة للجميع ، بمعنى الإنصات لا مجرد الاستماع فقط..كما أن مختلف التيارات الفكرية والسياسية في بلادنا مدعوة لنقاش راق ولإثراء هذه المواضيع ،وغيرها ، بمقاربات جدية تراعي الراهن وتدفع بالمجتمع لآفاق أرحب دون تمزق في الوعي وحروب دينية جديدة..

نحن أمام رهانات حضارية استثنائية وأمام نافذة تاريخية لم تفتح بعد لأي شعب من شعوب العالم العربي ..

نحن أمام التحديات العميقة للحرية ..
الحرية كاختيار فلسفي يقطع مع نظام الأسباب ..
الحرية كفتح لباب الممكن على مصراعيه..
الحرية كتموقع جديد في الحياة ..
الحرية كعلاقة جديدة مع الذات ومع الآخرين ..
الحرية كمخاطر لا يقدر عليها إلا الجسورون ..

وعلى كل فأيّا كانت نتيجة هذا الذي سنقدم عليه بصفة جماعية ،فالنقاش حول الحرية أفضل وأسلم لعقولنا من الغوص في دهاليز الحسابات الحزبية الضيقة والمحاصصات الرديئة واللعاب حول اقتسام كعكة لا تسمن ولا تغني من جوع ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115