Print this page

إتهام الوزراء و كبار المسؤولين في الدولة: ألـم يحن الوقت لوضع ضوابط أخلاقية أو قانونية ؟

يكثر الحديث عن تتبعات عدلية ضد وزراء مباشرين أوعن مسؤولين كبار في الأحزاب أو في الدولة و يتقلّص الإتهام ويتسع بإختلاف المصادر المستند عليها أو حسب التخمينات أو خيال البعض و قدرتهم على الإستنباط ، وتتشكّل كل مرّة «جوقة» يتولّى قيادتها طرف يدّعي حيازته للمعلومات الصحيحة المستقاة من مصادر قضائية أو عليمة في هذا المجال أو ذاك ،و

قلّما نسمع الخبر اليقين عن الوضعية الحقيقية لهذا أو ذاك.

يقول البعض أن الأمر عادي و تلك هي ممارسة حرية الإعلام ونقل المعلومة و تلك أحكام الإستقصاء و ضريبة الديمقراطية الّتي يتساوى فيها كل المواطنين أمام القانون.
هذا القول خطير و فيه كثير من الخلط في المفاهيم . فهو خطير لأنه ليس من حق أي كان أن يروّج أي خبر أو معلومة دون إحترام الضوابط القانونية و هو ما يشكّل جرما يؤاخذ عليه القانون المطبّق .

و فيه خلط للمفاهيم ، لأن ترويج الأخبار غير المضبوطة دون التثبت في المفاهيم و الأوصاف القانونية يؤدي إلى بث البلبلة في الأذهان ،خاصة عندما تنقطع المتابعة فيسود الإعتقاد أن الأمر إنتهى و أن الشخص المعني بالتتبع و الّذي تداول إسمه كمتهّم بأفعال شنيعة ، أفلت من العقاب و تدبّر أمره بطريقة أو بأخرى و ما إلى ذلك من تفسيرات وتبعات . أو إعتبار الديمقراطية ، تشريعا للفوضى وإستباحة كل التصرفات دون أي ضوابط

و لكن كل هذا لا يخفي الفراغ التشريعي في عدّة مسائل و إنخرام المنظومة القانونية والقضائية في تونس و غياب الإصلاحات الضرورية و المرونة في تطبيق القوانين تصل حد التهاون في فرض سيادة القانون والدولة ،إلى درجة الإعتقاد بوجود أطراف تسعى إلى تعفين الأوضاع للتمعش من حالات الفوضى والتسّيب .
إن الحقيقة الّتي يجب الإصداع بها ، أن ما يحصل غير عادي و لا يجب أن يحصل،و لا بد من توفّر إرداة فاعلة لتصحيح المسار الّذي نحن فيه .

صحيح أن المواطنين و المواطنات متساوون في الحقوق و الواجبات و هم سواء أمام القانون من غير تمييز حسب ما نص عليه الدستور ، و لكن يفترض هذا أن يكون هذا القانون قائما و منظما لكل مؤسسات الدولة ،و ضامنا لعملها و حسن سير المرفق العام، هذا من جهة ، و من جهة أخرى، أن تكون إرادة تطبيق القوانين السارية متوفّرة وبارزة للعيان دون حيف أو تجاوز، و ذلك حتى لا نحطّ من شأن سلطة القانون و من هيبة و علوية المؤسسات الساهرة على تطبيقه.

إن القانون التونسي لم يخص الوزراء وأعضاء الحكومة أو رئيسها بإجراء خاص عند نسبة فعل يجرمه القانون عند أدائه لمهامه أو بمناسبتها ، ولم يمنح هؤلاء حصانة بإستثناء رئيس (في رتبة كاتب دولة او وزير )وأعضاء اللّجنة الوطنية للتقصي حول الرشوة والفساد (طبقا للمرسوم عدد 7 لسنة 2011 و المرسوم الإطاري عدد 120 لسنة 2011)الّذين يتمتعون بحصانة فيما يتعلّق بممارسة المهام الموكولة إليهم و لكن يمكن رفع هذه الحصانة إثر مداولة خاصّة لجهاز الوقاية والتقصي بعد إستدعاء المعني بالأمر لسماعه(و هو نص غامض) . و بالتالي فإنه على خلاف رئيس الجمهورية الّذي متعه الدستور بالحصانة طيلة توليه الرئاسة ، و لا يسأل عن الأعمال التي قام بها في إطار أدائه لمهامه و كذلك نواب الشعب بشروط فإن الوزراء لا يتمتعون بأي نظام خاص.

فالوزراء المباشرون في تونس وفي غياب نصوص قانونية تخصهم يبقون خاضعين بصفة مباشرة لأحكام القانون العام مثلهم مثل كبار المسؤولين في الإدارة والدولة، بالرغم من أن أخطاء التصرف تبقى من أنظار دائرة المحاسبات الّتي هي الدائرة المختصة أصالة بتتبع المخالفين والّتي لها في صورة وجود خطأ جزائي أن تحيل الملف على النيابة العمومية لإثارة التتبع الجزائي . و لكن كثيرا ما يقع اللجوء مباشرة إلى الفصل 96 من المجلة الجزائية الّذي إعتبرته في مقال سابق»سيف القضاء المسلول».

و الغريب في ما نشهده اليوم ،أن الوزير المباشر يبقى مباشرا رغم ما يروّج عنه ،و الحال أنه في الأعراف السياسية إذا قامت الشبهة وتعزّزت بإحالة المعني إلى النيابة العمومية بتهمة إرتكاب فعل يجرّمه القانون في ممارسته لمهامه أو بمناسبتها ، أن يستقيل من مهامه من تلقاء نفسه درءا للشبهات، أو أن يفعّل مجلس النواب ما له من صلاحيات بخصوص سحب الثقة ، استنادا إلى أحكام الدستور الّذي يمنح مجلس نواب الشعب سحب الثقة من أحد أعضاء الحكومة بعد طلب معلّل يقدّم لرئيس مجلس الشعب، من ثلث الأعضاء على الأقل على أن يتمّ التصويت على سحب الثقة بالأغلبية المطلقة . و لكن المعلوم أن تحقيق هذا النصاب صعب التحقق في معادلة «التوافقات» وتبعاتها.

والجدير بالملاحظة أن الحديث عن الإتهام لا يعني رفع شكاية لدى وكالة الجمهورية بإعتبار أن الشكاية يمكن أن تحفظ ، و لا بنشر تدوينة في شبكة التواصل الإجتماعي أو إثر تصريح متشنج ومجرّد في إحدى المداخلات داخل مجلس النواب أو في المنابر الإعلامية و عند سماعه كشاهد ، ،وإنّما يعني ، توجيه التهمة للوزير المعني و فتح تحقيق ضدّه و يتمّ سماعه كمتهم . مع العلم أنه حتى سماع المعني كمتهم ، لا يعني إرتكابه للفعل المنسوب إليه بل يبقى مشتبها فيه أو مظنونا فيه إلى أن يصدر قرار يقضي بإحالة على المحاكمة الّتي يمثل أمامها كمتهم و يبقى بريئا إلى أن يصدر في شأنه حكم نهائي و بات يدينه و لو بخطية مالية .

كما تجدر الملاحظة أيضا أن سرية التحقيق والأبحاث مضمونة قانونا و أن مخالفة أي كان ذلك يجعل الهاتك للسر أو لسير الأبحاث و التحقيق عرضة للمؤاخذة جزائيا ،و لكن ما نلاحظه ،أن القانون مغيّب في هذا المجال أو لا نسمع عن تبعات هتك هذه الأسرار .

إن اتهام وزير بالفساد أو بتجاوزات يمكن مؤاخذته عليها جزائيا ، ليس أمرا هيّنا أو حدثا عابرا، بل هو أمر متصل بثقة المواطنين في الدولة وفي المسؤولين فيها، والحديث عن ذلك دون ضوابط، يمس من سمعة الدولة وهيبتها في الدّاخل والخارج، لذلك لا بد من وضع مدوّنة خاصة تضع الضوابط القانونية لهذا الأمر و عدم ترك الحبل على الغارب.

وفي الدول ذات التقاليد الديمقراطية نظمت هذه المسألة، ووضعت نصوص خاصة تحكم مسؤولية الوزير سواء في الدستور أو في قوانين خاصّة وأعطت الإختصاص إمّا لدوائر قضائية متخصّصة، أو لمجالس خاصة محاطة بضمانات و إجراءات دقيقة . ففرنسا مثلا عرفت تجربة محكمة العدل للجمهورية Cour de Justice de la République (CJR), و هي محكمة يخضع فيها إجراء التتبع إلى «غربال « دقيق يبدأ من لجنة خاصة تتلقى الشكاوي متكونة من قضاة من دائرة المحاسبات ومن مجلس الدولة و من محكمة التعقيب ، ثم يقع تمرير الملف إذا قبل إلى لجنة تحقيق متكوّنة من 6 قضاة من محكمة التعقيب ،و يمكن للجنة التحقيق أن تحفظ الملف أو أن تحيله على المحكمة المذكورة وهي متكونة من عشرات الأعضاء...

كل هذا يدفع إلى التفكير في ضبط كيفية مساءلة أعضاء الحكومة وتتبعهم بالكيفية التي لا يستباح فيها مال الدولة أو سمعتها و هيبة مؤسّساتها و لا يستسهل فيها الإتهام دون رادع أو ضوابط.

المشاركة في هذا المقال