الحقوق الفردية ... المساواة في الميراث ... زواج المسلمة بغير المسلم ... I- ثورة تونس الثانية

تسريبات كثيرة تحدثت منذ أسبوعين عن إجراءات «تاريخية» سترد في خطاب رئيس الجمهورية في عيد المرأة يوم 13 أوت..

ولكن تعودنا على إعلانات سابقة مماثلة مخيبة للآمال جعل العديدين منّا لا يتصورون خطابا رئاسيا خارجا عن المألوف..
ولكن صدقت الأنباء هذه المرة وكنّا،فعلا،أمام إجراءات أو بالأحرى إعلانات لا يمكن أن توصف إلا بكونها تاريخية تعيد للسياسة مجدا كثيرا ما فقدته خلال هذه العهدة الرئاسية وتخرج السياسة من المطابخ الداكنة التي لا تعرف إلا المناورات والمؤامرات ..

لاشك أن المناورات لم تغب في الإعلانات الرئاسية الأخيرة فالمناورة بطبعها لا تغيب عن أي فعل سياسي ..ولكننا كنا في هذه المرة أمام أفكار وقيم وتصور لتونس اليوم والغد..
سيقول الكثيرون أن الإعلانات الرئاسية وخاصة مسألة المساواة في الميراث بين المرأة والرجل إنما هي مناورة لتلهية الرأي العام عن قضاياه الحقيقية التنموية والاقتصادية واستعادة لزمام المبادرة السياسية دون كبير عناء..

لهؤلاء ولغيرهم نقول بأن مشاكل تونس عديدة ومعقدة وأن التنمية ومكافحة البطالة والقضاء على الإرهاب وتحقيق التوازنات المالية وتحسين ظروف عيش كل المواطنين هي ولاشك من أولوية الأولويات لبلادنا..ولكن نستغرب من بعض من يرددون شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان تعاملهم المهين مع عالم القيم..

متى كانت القيم ثانوية في حياة الشعوب؟

وحدها النظم المستبدة تشرّع لثانوية الحقوق والحريات وتجعل من إشباع البطن قيمة القيم ..

لعلّ العهد قد طال على بعض الشغوفين بالديمقراطية فنسوا أن كل الثورات الديمقراطية ابتداء بالثورة الفرنسية قد قامت على مبدإ الحقوق الفردية للإنسان مقابل طغيان النظم الاقطاعية وطغيان الجماعة وثقافتها وتقاليدها ..
هل نريد من ثورتنا أن تكون محافظة على البنى الذهنية والاجتماعية القديمة وألا تسائل مشروعيتها وألاّ تعيد بناء العقد الاجتماعي على قواعد جديدة ؟

تدافع جلّ النخب في البلاد العربية منذ عقود عن الحريات العامة (حرية التحزب والتنظم والاجتماع والانتخاب والتظاهر والتعبير ..) ولكن عندما يتعلق الأمر بالحريات الفردية يبدأ الحرج ونبدأ في التنسيب ونبحث عن «الحدود» و«الضوابط» الأخلاقية والدينية والاجتماعية..
فالحرية عند نخبنا ليست قيمة في حدّ ذاتها ولا يُناضل في سبيلها فقط فالحرية عندنا وسيلة تقنية ننظم بها المجال العام وهي دوما خاضعة لما نسميه «حرية» المجتمع تحت شعار فضفاض يقول بان المصلحة العامة (مصلحة المجتمع) تمرّ قبل المصالح الفردية (حقوق الافراد)...

يحصل هذا في فضائنا الثقافي والحضاري لا لخصوصية دينية نسقطها عليه بل لعدم تخلصنا من كل القيود التي كبّلت الفكر الحرّ عبر القرون والعصور حتى اعتقد الكثير منّا بان الحرية لا تنتمي لطبيعتنا الثقافية. فالغرب يعشق الحرية بينما الشرق لا يعشق إلا العدل.. والعدل عندنا هو أن يبقى كل فرد في بوتقة ما تسمح له به الجماعة فقط لا غير.. لأن العدل بين الأفراد يسمى مساواة..والمساواة هي جوهر الحرية .. والحرية هي جوهر الحق ... يخطئ من يعتقد أن وحدها تيارات الإسلام السياسي تجد الحرج الأكبر مع الحريات والحقوق الفردية خاصة منها تلك التي تبدو في تناقض مع ظاهر النصوص الدينية..فالتيارات القومية العربية ذات المنحى الناصري خاصة تلتقي مع الإسلام السياسي في نفس النظرة المحافظة لاسيما عندما يتعلق الأمر بالمسائل الجندرية..وحتى التيارات اليسارية ذات النزعة الأممية تجد حرجا في هذه القضايا وعادة ما تعتبرها ،في الفضاء العربي دوما،تلهية عن القضايا المصيرية والمقصود بها دوما القضايا الاقتصادية والاجتماعية وكأنه كتب علينا للأبد أن نختار

بين حرية فردية «بورجوازية» وحريات عامة تقهر الأفراد تحت داعي «المصلحة الوطنية».
وكلامنا ليس من فراغ إذ لم تقدم اية حكومة عربية قادتها قوى «تقدمية ثورية» على إصلاح جذري وعميق على هيكلة العائلة ودور المرأة باستثناء ما حصل في اليمن الجنوبي وفي منطقة ظفار العمانية ولكن الإصلاحات القانونية هناك لم تمس جوهر البنية القبلية في تلك المجتمعات..وحدها تونس بورقيبة قامت بأعمق واشمل إصلاح لبنية العائلة التقليدية أي في جزء من مجال الحريات الفردية للمواطنات والمواطنين..

فما هو ثوري في خطاب رئيس الجمهورية يوم الأحد 13 أوت ليس إعلانه نيته لتقديم مبادرة تقر المساواة في الإرث بين الجنسين أو طلبه من رئاسة الحكومة ومن وزارة العدل تعطيل العمل بالمنشور 73 الذي يمنع التونسية من الزواج بأجنبي إلا متى استظهر بشهادة في إسلامه ..الثوري في هذا الخطاب هو وضعه الحريات والحقوق الفردية كمبدإ ذي علوية تخضع له القوانين والتراتيب وكذلك الذهنيات والعقليات ..فالنقاش ليس فقهيا – على أهمية النقاش الفقهي – وليس ذرائعيا – أين تكمن المصلحة يكمن التشريع – النقاش هو على مستوى القيم وفي منظومة تكون فيها الحرية قيمة القيم لا ملحقا مقيدا بهواجس بعض النخب أو بما قد يتصور أن الجمهور قد يستسيغه..

لاشك أن النخب الفكرية والسياسية العربية قد لعبت دورا كبيرا على امتداد القرن ونصف القرن الماضي لشحذ الهمم ولإخراج مجتمعاتنا من سباتها العميق ..ولكن جلّها ظلّ متأخرا عندما تعلق الأمر بالإصلاحات المجتمعية والحريات الفردية في جوهرها وصميمها فتراها عادة ما تلاحق التطور ونادرا ما تستبقه.. شعارها «مش وقتو»..

نحن ندرك بان الإعلانات الرئاسية ورغم الحذر الذي صاحبها ستحدث رجة عميقة لا فقط في المجتمع بل وأساس لدى النخب وسوف نجد تعبيرات مختلفة (من الثورية جدّا إلى المحافظة جدّا) نرفض الإقرار بالمساواة المطلقة بين الجنسين لا رفضا للمبدأ – حسب ما تدعيه - ولكن تنديدا بالطريقة وبالتوظيف وبالمناورة ..
كما يجب ألاّ نغتّر «بفتاوى» بعضهم وبتزلف أعلام الإسلام الرسمي الذين يقولون الأمر ونقيضه في نفس الشيء فالمساواة الاختيارية في الميراث التي اقترحها النائب مهدي بن غربية في ربيع 2016 «مخالفة لصريح النصوص»..أما عندما تأتي المبادرة من القصر عندها تصبح عين الحكمة والعقل والمصلحة..
تونس لا تحتاج إلى «مشائخ» كهؤلاء..بلادنا تحتاج اليوم إلى حوار في العمق دون تشنج ودون اتهامات مجانية ..إننا نخطو بعض الخطوات نحو طريق غير مألوفة قد يصيب بعضنا الدوار في بداياتها ..
ولكنها الطريق الوحيدة السالكة نحو مجتمع حرّ وديمقراطية كاملة ..

(يتبع)
• غدا : II المساواة في الميراث
والشريعة والتاريخ

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115