Print this page

ربطة العنق وبروز الإسلام البرغماتي

رغم اندلاع الحرائق في عدة مناطق من الشمال الغربي وانشغال الناس بمصير الأسر التي لحقتها أضرار جسيمة وبانعكاسات هذا الحدث على البيئة فإن الموضوع الذي هيمن على الرأي العام هو ربطة عنق الغنوشي ثمّ تصريحاته بشأن الانتخابات. فكانت للفايسبوكيين صولات وجولات أجبرت لطفي زيتون وغيره من القياديين على توضيح دلالات لبس الغنوشي ربطة

العنق في مثل هذا التوقيت الزمني بالذات ونحن على أبواب الانتخابات البلدية. ولكن ما الذي يجعل فئة من التونسيين تهتم بالشكل على حساب المضمون، وتلهيهم ربطة العنق عن مشاغل ذات أولية كانقطاع الماء والكهرباء والتحركات الاحتجاجية وغيرها؟ وما أهمية ربطة العنق بالنسبة للسياسي؟.

للسياسيين مع ربطة العنق تاريخ...فقد التزم الزعيم الراحل ياسر عرفات باللباس العسكري والكوفيّة الفلسطينية، وفي إيران أصر قياديو الثورة على التخلي عنها محددين من خلال هذا الاختيار علاقتهم بالشيطان الأمريكي ، وموقفهم من الغزو الامبريالي. وفي ليبيا تعمّد القذافي استبدال البدلة الأفرنجية ببدلات تراعي ميوله الأفريقية وتلبي رغباته الخاصة في إبراز الزعامة والفرادة فنبذ ربطة العنق .وفي تونس ارتأى المنصف المرزوقي التقرب من عموم التونسيين من خلال «التنازل» عن ربطة العنق ووضع بصمته الخاصة: البرنس. أمّا رئيس حركة النهضة فقد كان راغبا منذ البدء، في التحرر من «ربطة عنق» ومصرا على إبراز التمايز بينه والزعيم بورقيبة ولذلك وجدناه متماهيا مع التوجه الإيراني. ولا عجب في ذلك

مادامت الثورة الإيرانية تجربة ملهمة في نظره . وفي مقابل هؤلاء وظف بعض رؤساء الحكومة كمهدي جمعة ويوسف الشاهد لبس ربطة العنق من عدمه وفق المقامات فكانت دالة على التموقع الرسمي في حالات، وكان التحرر منها ، في حالات أخرى معبرا عن الرغبة في التواصل مع الشباب أو العمال أو عموم الناس وكسر المسافات، وعلامة على الحركية والنشاط.

لقد اتخذ لبس الغنوشي ربطة العنق صفة الحدث، وهو أمر متوقع باعتبار تحوّل رئيس حزب النهضة إلى موضوع تحديق ومراقبة. فالمحللون والمعارضون وغيرهم يرصدون ظهور الرجل ويقلبون النظر في دلالات حضوره ، ويسعون إلى فكّ شفرات الرسائل التي يبعثها من خلال الخطاب والهيئة وحركات الجسد. ولذلك بدا لبس ربطة العنق موصولا إلى استراتيجية النهضة ، وسعيها إلى التموقع باعتبارها حزبا «وطنيا» و«وسطيا» متطوراModerate Islam وفي قطيعة مع «الإخوان» يرسم توجهاته بعيدا عن الإسلام السياسي الذي ادين وصار ورقة خاسرة في ولاية «ترامب».

لقد صارت ربطة العنق مخبرة عن تطلعات فردية لدى رئيس الحركة الذي اختار أن يكون وفيا للون الأزرق لوشائج تربطه بشعار الحزب وكذلك بالسياق السياسي العالمي. فلئن كان تاريخ الانتخابات الرئاسية في أعرق البلدان يثبت أنّ ربطة العنق الحمراء هي التي جلبت الحظ للمترشح للرئاسة فإنّ ترامب اختار ربطة العنق الزرقاء في المواجهة التي كانت له مع هيلاري. ولا يمكن أن نتغاضى عن الدلالات الرمزية للأزرق فهو رمز الثقة بالنفس والهدوء ولكنه في نفس الوقت يوظف في مقامات يكون فيها المترشح كذوبا فيريد أن يوهم الناس بصدق النوايا.

ولا يمكن أن نتجاهل ما لربطة العنق من صلة بتاريخ الحركة ومسارها السريع النسق، وخاصّة في السنوات الأخيرة والذي جعلها موغلة في البرغماتية بل لعلها صارت عنوان الانتقال من «الإسلام السياسي» إلى «الإسلام الوظيفي» فـ «الإسلام البرغماتي».
ربطة العنق صارت حديث الناس الذين رأوا أنّ رئيس الحزب يسوّق ويبيع ويرسم ويخطط ...معتمدا الوسيط والعلامة أداة لتبليغ الرسالة. ولكن هل صار الخطاب عاجزا عن النفاذ إلى عقول المستهلكين ، مهترئا يحتاج إلى ما به يشد الانتباه ويحرك المشاعر ؟

وها نحن، بعد زمن اتكاء الخطيب على العصا باعتبارها من مستلزمات الخطابة نعاين زمنا تصير فيه ربطة العنق عنوان الفتنة بين الناس. وسيّان إن تحدثنا عن العصا أو ربطة العنق فنحن في فضاء «المركزية القضيبة». بقي أن نتساءل، ونحن مع دخول النساء معترك السياسة ، وبروز أول ناطقة رسمية للحكومة التونسية عن «شارات» وعلامات سيميائية نسائية توظف في الخطاب السياسي؟

المشاركة في هذا المقال