يطلق حملته الانتخابية للرئاسية مبكرا من قناة «نسمة» من «سيدي الشيخ» إلى «أفندينا» أو راشد الغنوشي وإستراتيجية ربطة العنق

تحدثت «تسريبات» كثيرة خلال الأسابيع الأخيرة حول احتمال ترشح رئيس حركة النهضة إلى ارفع منصب في الدولة: رئاسة الجمهورية..

ورغم التأكيدات العديدة لزعيم النهضة منذ عودته إلى أرض الوطن في فيفري 2011 بأنه لا ينوي الترشح لأي منصب سياسي في البلاد.. ولكن الشهية تأتي مع الأكل كما يقال.. وأوّل علامات هذه الشهية هو حرص راشد الغنوشي على أن ينص النظام الداخلي لحركته في فصله الثاني والثلاثين على أنه من مهام رئيس الحزب «الترشح لشغل المناصب العليا في الدولة وله ترشيح من يراه مناسبا لذلك بدلا عنه بعد تزكية هذا المرشح من مجلس الشورى» وقتها – أي منذ سنة – ساد الاعتقاد بأن نية «الشيخ» ليست الترشح للرئاسة بقدر ما هي التحكم في مستقبل الحركة عن طريق اختصاصه بترشيح قيادي من النهضة لهذه «المناصب العليا» .. ولكن شهية الشيخ كانت أكبر من كل هذه التوقعات ..

وهذا الفصل في القانون الداخلي الذي تبناه المؤتمر الأخير لحركة النهضة لم يكن إلا اللبنة الأولى في مسار يعتقد «الشيخ» وبعض مقربيه أنه قد يوصله لأعلى المناصب..

وكتتويج أوّلي لهذه المرحلة التمهيدية ظهر «الشيخ» في لباس «أفندي» وبربطة العنق كذلك على شاشة قناة «نسمة» ليقول لنا بأن الغنوشي الجديد قد أتى وأنه كمسابق ماراتوني سينطلق مبكرا حتى يرسّخ تدريجيا في أذهان التونسيين صورة جديدة لا عهد لهم بها ..صورة السيد الأفندي العصري جدّا بلباس أنيق لم يترك فيه أي تفصيل للصدفة لا على مستوى الألوان ولا على مستوى انسجام كل جزئيات البدلة الإفرنجية..
في السياسة العصرية الشكل لم يعد منفصلا عن المضمون بل أضحى، في الحالات القصوى، هو المضمون ذاته: قل لي ماذا تلبس، أقول لك من تكون، وقل لي كيف تتحدث وتراوح بين الجدية والابتسام أقول لك أي رئيس للجمهورية ستكون..

وللبدلة الافرنجية الكاملة والأنيقة هنا دور محوري . .فهي تريد أن تقول لنا أننا لم نعد في حضرة «سيدي الشيخ» بل أمام السيد الأفندي راشد الغنوشي المتكلم شرقا والملتفت غربا..بقيت اللحية فقط كرمز يذكرنا بماضي الرجل..ولكن سيوكل لربطة العنق مهمة التحيّز الجغرافي المحدود لرمز الماضي والذي يراد منه نوعا من التجسير بين «سيدي الشيخ» و«أفندينا» لأن حلق اللحية قد يحدث شرخا بين الاثنين وقد يفسد عليه حساباته كلّها ..
ولكن ما إن تحدث «أفندينا» حتى عادت صورة «سيدي الشيخ» بقوة في اللهجة ومحاور الاهتمام وقسمات الوجه كذلك... ربطة العنق لم تطال بقية الجوهر.. أما عندما نذهب إلى المضمون فترى إعلانا ضمنيا للترشح لرئاسة الجمهورية أو على الأقل ايحاء بذلك...
ولكن أليس في الإعلان الضمني للترشح للانتخابات الرئاسية القادمة نقض للعهد الذي يربط الشيخين (قائد السبسي والغنوشي) لحد الآن ؟
نعم ولا في نفس الوقت ..

في الترشح لرئاسة الجمهورية – ولو كان ضمنيا – في منتصف عهدة الرئيس الحالي فيه نوع من التحدي ولاشك لصاحب قرطاج، ولكن «أفندينا» يجيد اللعب بين الحبال إذ لم يوجه سهامه الرشيقة إلا لصاحب القصبة طالبا إياه،مقابل مساندة حركته للحكومة ،بان يعبر بأنه غير معني بانتخابات 2019 تماما كما فعل الباجي قائد السبسي سنة 2011 والمهدي جمعة (بعد أن همّ بها) في 2014 ..
وهذا السهم تجاه يوسف الشاهد في تقدير أفندينا لا يمكن إلا أن ينال رضا صاحب قرطاج الذي لا يقبل البتة بوجود من يخطط لخلافته حتى لو كان رئيس الحكومة الشاب الذي اختاره هو بنفسه..

ثم إن وجود «أفندينا» وسط الحلبة مبكرا قد يغري الدهاء السياسي للشيخ «الأكبر» (مع الاعتذار لصاحب الفصوص والفتوحات محيي الدين بن عربي ) فالغنوشي رغم بدلته الجديدة وربطة العنق التي تزينها سوف يجلب ضرورة حول شخصه وحول حزبه جزءا من الغضب السياسي المنصب اليوم على حزب نداء تونس خاصة وأن الغنوشي الجديد لم يتمكن البتة من التخلص من الغنوشي القديم..
فالنهضة – حتى بالغنوشي الجديد- ستعود إلى وسط ساحة الوغى وسوف تتلقى ضربات عديدة ومن كل الجهات والجبهات بعد أن كادت تحيّد جل الخصوم خلال هاتين السنتين ونصف..

بعض أنصار نظرية المؤامرة قد يظنون بأن الغنوشي الجديد مدفوع من قبل الباجي قائد السبسي وانه سيمهد لصاحب قرطاج طريقا سيارة للترشح لولاية رئاسية ثانية.. أي في لغة العدو وكـان راشـد الغنـوشي هو الأرنب البري (le lièvre) للباجي قائد السبسي..
ولكن شهية الحكم هو التفسير الأيسر والأقرب لمنطق الأحداث من هذه الحسابات التكتيكية المعقدة التي تؤرق عقل صاحبها دون أن تضمن له النتائج المرجوة..

ثم إن «أفندينا» مضطر للانطلاق في السباق الرئاسي مبكرا لأنه متأخر جدّا في كل عمليات سبر الآراء وهو لا يحوز حتى على ربع نوايا التصويت القاعدة النهضوية، والحال أنه مطالب بتجنيد كل هذه القاعدة (حوالي %25 من عموم الناخبين ) بداية ثم الانفتاح ما أمكن على تخومها حتى يتمكن من تجاوز عتبة %50..

فما بين %5 او %6 الحالية و%20 أو %25 المؤهلة للانتقال للدور الثاني و%51 للفوز بالرئاسية الطريق طويل وطويل جدا والغنوشي الجديد كعداء ماراتوني لا يملك سرعة النفس الأخير..يعني هذا انه لو لم يبدأ في ربح النقاط بصفة تدريجية منذ هذه الأشهر الأولى فان حظوظه في الخط المستقيم الأخير ستكون شبه معدومة..

ولكن هل سيتجرأ الغنوشي الجديد على منافسة الباجي قائد السبسي لو قرر هذا الأخير الترشح لولاية رئاسية ثانية ؟ المنطق السياسي يقول لا لأن قائد السبسي هو أحسن مظلة للغنوشي ولحركته .. ولكن حتى في هذه الوضعية القصوى والغرائبية فإن إصرار «أفندينا» على ترشحه قد يكون مفيدا للباجي قائد السبسي إذ سيقضي حتما على طموحات عديدة، لا فقط رئيس الحكومة الحالي، ولكن بالأساس على طموحات المنصف المرزوقي وحمادي الجبالي وكذلك محمد عبو والمهدي جمعة وغيرهم كذلك..

فترشح جدي للغنوشي الجديد سيضعف حتما ترشحات عديدة أخرى وهذا بدوره، كما أسلفنا ييسر احتمال ترشح جديد للباجي قائد السبسي ..
ترى هل ستكون ثورة الشباب في 2019 أمام اختيار غريب ورهيب:

إما الباجي قائد السبسي أو راشد الغنوشي ؟
في هذه الصورة سيكون الرابح في كل حال ربطة العنق..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115