عودة محتشمة لمحركات النمو وضغوط متعاظمة على المالية العمومية: الاقتصاد التونسي بين الدكتور جاكيل (وزير الاستثمار والتعاون الدولي ) وميستر هايد (وزير المالية بالنيابة)

في أيام قليلة جدا (من يوم الخميس الفارط إلى يوم أمس الاثنين) قدّمت لنا صورتان متناقضتان (ظاهريا على الأقل) للاقتصاد التونسي.

لقد تحدث السيد فاضل عبد الكافي كوزير للمالية بالنيابة يوم الخميس الفارط أمام مجلس نواب الشعب ليقول بأن الدولة «تشهق ما تلحق» وأن أجور شهري جويلية وأوت مهددة وأن الحكومة أضحت كتاجر الحيّ وأن كل الذين ينتقدونها من سياسيين ونقابيين لا يملكون حلولا جدية وأنهم لو صمتوا لكان خيرا لهم وللبلاد ..هذا كان لقاؤنا مع «مسيتر هايد» (في بعده المخيف فقط) الذي بث في عموم التونسيين وكذلك الفاعلين الاقتصاديين مخاوف عدة..فإذا لم يعد الآني مضمونا فما بالك بوضع البلاد بعد سنة أو سنتين..

«ميستر هايد» ترك مكانه يوم أمس للدكتور جاكيل ليقول لنا بعد انعقاد مجلس الوزراء بأن لا خوف على رواتب الموظفين لا هذا الشهر ولا في الأشهر القادمة وان الدولة التونسية ستفي بكل تعهداتها من خلاص مديونيتها وأجور موظفيها وسياساتها الاجتماعية واستثمارها العمومي..وأن كل ما في الأمر أن هنالك ضغوطا على المالية العمومية ولكن تسريح القسط الثاني من القرض الميسر لصندوق النقد الدولي سمح لتونس بتجميع الموارد الضرورية،داخليا وخارجيا،لغلق سنة 2017 علاوة على تحسن المؤشرات العامة للاقتصاد الوطني وعودة النمو إلى مستوى ارفع من معدلات السنوات الفارطة..
ترى من نصدق ، الدكتور جاكيل المبتسم أم ميستر هايد المزمجر ؟ السيد فاضل عبد الكافي يعطينا الجواب : الاثنان معا يا حضرات ..

الإشكال ، فيما يبدو،ليس في هذين الخطابين المتناقضين في الظاهر والمنسجمين في الحقيقة..الإشكال هو في رفضنا لقبول تعقد الوضع الاقتصادي واعتبارنا أن هذا الخطاب الثنائي لا يمكن أن يعبّر عن حقيقة الأوضاع..
منذ بداية سنة 2014 مع حكومة المهدي جمعة تم الحديث عن صعوبات الدولة للإيفاء بتعهداتها بحكم حجم الضغوط المسلطة على المالية العمومية،وقد قيل آنذاك أن صرف أجور الموظفين وجرايات المتقاعدين مهددة لو تواصل الأمر على ما هو عليه ..

وتواصل الأمر،تقريبا،على ما هو عليه وصرفت أجور 2014 و2015 و2016 و2017 بل وحصلت زيادات فيها بنسق مرتفع خاصة مع حكومة الحبيب الصيد إلى درجة أن التونسيين لم يعودوا يصدقون مسألة تهديد صرف الأجور والجرايات..بل وذهب بعضهم ،كالنائبة سامية عبو،إلى اعتبار انه لا علاقة بين أجور الموظفين والتداين الخارجي مادامت الأولى تصرف بالدينار والثانية تأتينا بالعملة الصعبة (نعم هكذا ! وكأنها تريد أن تقول بأنه لا علاقة البتة بين العملتين المحلية والأجنبية بينما العكس هو الصحيح)

والإشكال الثاني هو انه كلّما عمدت الحكومات المتعاقبة إلى مصارحة الناس بحقيقة الأرقام وبالأوضاع الصعبة جدّا للبلاد إلاّ واتهمت بأنها تريد أن تتعلل بهذه الصعوبات لضرب مكاسب الطبقات الوسطى والضعيفة..
ثم لخطاب المصارحة تبعات قد تكون ثقيلة خاصة على الفاعلين الاقتصاديين والمستثمرين فبلد على مشارف الإفلاس (هكذا يفهم الجميع عدم قدرة الدولة على خلاص أجور موظفيها ) لا تغري البتة بالاستثمار ولا يمكن المراهنة على مستقبلها والاستثمار كما هو معلوم هو مراهنة على مستقبل وثقة فيه..
ولكن عندما يغيب خطاب الصراحة تعود حليمة إلى عادتها القديمة وتنتفي إمكانية الحديث عن الإصلاحات الضرورية لإخراج البلاد من الأزمة المستفحلة والمتفاقمة للمالية العمومية..
أرقام بسيطة لابدّ أن تكون دوما حاضرة في أذهان كل التونسيين :

- تطورت ميزانية الدولة بالأرقام القارة (أي دون احتساب التضخم) بحوالي %5 على امتداد هذه السنوات السبعة بعد الثورة..

- تطور الناتج الداخلي الخام (أي إنتاج الثروة الوطنية )بحوالي %1.5 على امتداد كامل هذه الفترة

- تطور كتلة الأجور في الوظيفة العمومية (دائما بالأرقام القارة) بحوالي %6

- تطور عدد الموظفين بـ%5

- تطور نسبة المديونية العمومية في حدود %6 سنويا ..

هذه الأرقام تكفي لوحدها لإعطائنا صورة تقريبية عن وضع البلاد وخاصة عن الوضع المالي للدولة إذ نجد أن كل إنفاقات الدولة تنمو ثلاثة أضعاف على الأقل مقارنة بنسق نمو انتاج الثورة..والنتيجة واضحة ومنطقية : ارتفاع جنوني لنسبة المديونية التي انتقلت في ظرف ست سنوات من %40.7 إلى %64.7 (أرقام افريل 2017) وبتفاقم منذر بالخطر اذ ارتفعت نسبة مديونيتنا في سنة واحدة (من افريل 2016 الى افريل 2017) بحوالي ثماني نقاط نجمت كلها من التداين الخارجي إذ بقي تداين الدولة الداخلي في نفس الحجم تقريبا..

هل بإمكان هذا الوضع أن سيتم ؟ طبعا لا .. وهل بإمكاننا الحدّ من هذا التفاقم بالاعتماد فقط على عودة النمو ؟ طبعا لا كذلك ..
الحلّ واضح لا لبس فيه وهو لا ينتمي لا إلى اليمين ولا إلى اليسار : انه التحكم الفعلي والجدي في مصاريف الدولة ..

فكما لا يمكن لعائلة أن تعيش باستمرار فوق مداخيلها كذلك لا يمكن لدولة أن تنفق على مختلف مصاريفها (أي الميزانية ) اكثر مما تنتجه البلاد من خيرات ..

وان حصل هذا كما هو الشأن عندنا منذ 7 سنوات فالإصلاح الأول والأكيد هو الحد الفوري من تفاقم إنفاق الدولة خاصة فيما يتعلق بمصاريف تصرفها أي في كتلة الأجور وفي سياسة الدعم وفي كل إنفاق يتعلق بنسق «عيش» الدولة كتلك الشركات العمومية التي أضحت خاسرة بصفة هيكلية وكمنظومة التقاعد المهددة في ديمومتها دون المساس بالإنفاق الضروري في الاستثمار العمومي لأنه وحده هو الذي يخلق ثروة الغد..

وللإنصاف نقول بان الحلول التي اقترحتها هذه الحكومة كالخروج الطوعي للتقاعد المبكر وكالحدّ من الانتدابات في الوظيفة العمومية إلى حدودها الدنيا هي أيسر الحلول لأنها لا تمس مطلقا من المقدرة الشرائية لأحد..
والسؤال هل ستكفي هذه الحلول للحدّ من الضغوطات على المالية العمومية؟ الأرجح أنها لن تكفي الا في حالة واحدة :عودة النمو بنسق قوي (فوق %4) بداية من السنة القادمة وهذا أمر غير مضمون..
كل الخبراء مجمعون على انه من الضروري ان تعود الدولة إلى نسق إنفاق عقلاني اي ان تتخلص من جزء المديونية العامة للبلاد (لا للدولة) التي تتسبب فيها عدة مؤسسات عمومية لا تنتمي للقطاعات الاستراتيجية وان تصلح بصفة جذرية الوظيفة العمومية حتى لا يكون التقليص التدريجي في عدد الموظفين مرادفا للتقليص في جودة الخدمات وكذلك أن ندخل في إصلاح عميق لمنظومتي التقاعد والدعم..

هل هذه املاءات (أو شروط ) صندوق النقد الدولي ؟
في الحقيقة الجواب لا يهم لأننا أمام إصلاحات يقتضيها المنطق السليم غير المأدلج..

ما ينقصنا اليوم هو مواجهة واقعنا بوضوح والسعي إلى تغيير بعض مكوناته الأساسية حتى لا تكون الدولة اليوم وغدا عبئا على النشاط الاقتصادي للبلاد..
اما لو تمادينا في سياسة النعامة وفي رفض كل اصلاح بدعوى عدم المساس بالحقوق المكتسبة فعندها حتى ميستر هايد لن يكون قادرا على أن يخيفنا ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115