الحرب على الفساد: الشاهد لا يفصح عن خطته والطبقة السياسية منقسمة

موعد يوم أمس كان ينتظره الجميع، فبعد شهرين من إطلاق الحكومة حملتها على الفساد يواجه يوسف الشاهد نواب الشعب للمرة الأولى لكي يكشف عن طبيعة هذه الحملة

(أو الحرب) وعن أهدافها وعن إستراتيجية الدولة لمواجهة هذه الآفة المستفحلة ..

خلال نصف ساعة حاول رئيس الحكومة إقناع نواب الشعب ومن ورائهم عموم التونسيين بأن الحملة على الفساد ليست حملة عابرة بل حربا شاملة وكاملة لا تستثني أي نوع من أنواع الفساد وأي فاسد من الفاسدين..

لقد جاء رئيس الحكومة إلى مجلس نواب الشعب ومعه منجز ملموس : اعتقالات وبداية إحالات على القضاء شملت 16 شخصا تحوم حولهم جميعا شبهات كبيرة تهم جرائم التهريب وجرائم ديوانية وغيرها وحول احدهم تهم التآمر على أمن الدولة ..هذا هو المنجز الحكومي العملي خلال هذين الشهرين الأخيرين..ولكن كان الجميع ينتظر من رئيس الحكومة أن يراكم حول هذا المنجز ..وأن يؤسس عليه تصورا متكاملا لمواصلة الحرب على الفساد..

يوسف الشاهد اختار في كلمته أن يراوح بين السياسي والتقني ..بين حلم الثورة وأهدافها وبين الشروط القانونية التي تتأسس عليها الحرب ضد الفساد..

تحدث يوسف الشاهد عن الترسانة القانونية التي أعدتها حكومته أو هي بصدد وضع اللمسات الأخيرة عليها كقانون حماية المبلغين..وإرساء هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومشروع قانون مكافحة الإثراء غير المشروع وقانون إرساء القطب القضائي المالي ..

ويفهم من كلام رئيس الحكومة أن هذه الترسانة هي التي ستتولى مواصلة الحرب على الفساد بعد أن انطلقت بصفة استثنائية وبالاعتماد على قوانين استثنائية ..

إذن طريقة الحكومة هي الانتقال من الاستثنائي إلى القانوني ومن تدخل السلطة التنفيذية عبر قانون الطوارئ إلى السلطات القضائية والرقابية التي أصبحت تتمتع بترسانة قانونية كافية لمواصلة هذه الحرب..

هل يعني هذا أنّ التدخل الاستثنائي للسلطة التنفيذية قد انتهى ؟ رئيس الحكومة لا يقدم أية إجابة عن هذا ..

هل سنشهد فترة انتقالية يتواصل فيها تدخل السلطة التنفيذية في انتظار أن يستحوذ القطب القضائي المالي بالكلية على هذا الملف؟

ما استفدناه من كلمة يوسف الشاهد هو أن الحكومة ستستكمل البناء التشريعي لمنظومة محاربة الفساد وأنها ستعطي كل الإمكانيات للهيئات الرقابية والدستورية وخاصة لهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والتي أصبحت لها صلاحية التقصي وكذلك الضابطة العدلية، ولكن رئيس الحكومة لم يجب على كل الانتقادات التي تقول بأن صلاحيات هذه الهيئة الدستورية هي دون ما يتوفر للهيئة الوقتية الحالية. وان القانون الجديد يضيق عليها الخناق خاصة فيما يتعلق باستقلاليتها المالية ..

والأهم من كل ذلك لا نعلم، بعد الاستماع إلى رئيس الحكومة، كيف ستوسع الحكومة رقعة حربها على الفساد لتنتقل من بعض بارونات التهريب إلى الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة وما يقال كذلك عن الصفقات العمومية وعمّا يجري في المعابر الحدودية.. كيف ستتصرف السلطة التنفيذية ؟ هل ستقدم على عملية تدقيق شاملة لكل نشاطات الدولة ومؤسساتها العمومية ؟

ثم عندما يقول يوسف الشاهد بأن الحكومة ستذهب في هذه الحرب إلى نهايتها الطبيعية وان كل الفاسدين سيكونون وراء القضبان فهل يعني هذا أن كل أجهزة الدولة ومكونات السلطة السياسية مجمعة على هذه السياسة؟

عندما نستمع لتدخلات النواب من الكتل الحاكمة وخاصة من النهضة والنداء تنتابنا شكوك كبيرة في انسجام السلطة السياسية بأكملها في هذه الحرب..

ما معنى أن يركز جل نواب الحزب الثاني في التحالف الحاكم (والأول فعليا في البرلمان) على ألا تكون هذه الحرب انتقائية ! بل هم يقولون صراحة بأنها انتقائية مادامت قد ألقت القبض على شفيق ووجهت له اخطر التهم وتركت كمال حرّا طليقا وهو «كابو» الفساد على حدّ عبارة النائب النهضوي محمد بن سالم وزير الفلاحة الأسبق في حكومة الترويكا..

جلّ تدخلات نواب النهضة أكدت على مساندتها للحكومة ولكن ركزت جميعها – أو تكاد – على ألا تكون هذه الحرب انتقائية وألا تعتمد على القوانين الاستثنائية المنافية لحقوق الدفاع ..

أما دعم النداء ففيه ما يؤكل وما يشرب كما يقول المثل الفرنسي ..فنحن لا نعلم إن كان هذا الدعم نابعا من قناعة داخلية أم هو تخفي المريب وراء كلمات فضفاضة في انتظار أن تضع هذه الحرب أوزارها وأن يكفي الله الندائيين شر القتال ..

لو أردنا أن نحصي الكتل التي تساند الحكومة في حملتها على الفساد دون حسابات مسبقة لقلنا بأنها لا تتجاوز الاثنتين : آفاق والكتلة الوطنية أمّا بقية كتل المعارضة فهي تتراوح بين الاعتقاد بأن بداية حملة الحكومة جيّدة ولكنها غير كافية لمن يعتقد بأن حكومة ينخرها الفساد لا يمكنها بالمرة أن تحاربه .. ولقد توجهت سهام عديدة من صفوف المعارضة لتتهم رئيس الحكومة أو بعض أعضاده بالضلوع في الفساد..

جلسة يوم أمس انتظرها الجميع ولكنها لم تأتنا بالجديد لا فيما يخص خطاب رئيس الحكومة إذ أكد فيها ما قاله سابقا ولم يفصح عن آية سياسة مستقبلية في هذا المضمار أمّا المعارضة، بأصنافها، فقد شكك جلّها في جدية الحكومة فيما تراوحت مواقف نواب الحزبين الكبيرين بين المساندة المتحذلقة والتشكيك المبطن..

جلسة يوم أمس أثبتت ليوسف الشاهد بأنه لا يستطيع أن يعوّل على حزام سياسي جدي يسنده في حربه هذه سوى بعض المجموعات الصغيرة وأفراد في مختلف الأحزاب ..وضعف هذا الحزام لا يعود فقط لسوء نوايا المعارضين تحت شعار «معيز ولو طارو» ولكن أيضا لان هذه الحرب مازالت في بداياتها ولان التشكيك في جدية الحكومة يأتي أيضا من هيئة مكافحة الفساد وإننا لا ندري متى سنتجاوز دائرة المهربين إلى بقية الدوائر الأخرى ..

يمكن ليوسف الشاهد أن يعول على المساندة الشعبية الواسعة التي وجدتها حملته على الفساد ..ولاشك أن هنالك نبرة جدّ وصدق في خطابه يوم أمس ..ولكن لا يمكن لصاحب القصبة أن يعتمد فقط على منجزه الحالي. اعتقال 16 مهربا بداية جريئة ولاشك ولكنها تبقى بداية جزئية على كل حال..

جلسة يوم أمس وإن لم تأت بجديد يذكر إلا أنها أثبتت بأن استرجاع الثقة مسار مازال في بدايته إذ يبقى شرطه الأول هو انسجام منظومة الحكم في هذه الحرب ..ولكن مؤشرات عدة تفيد بأن هذا الانسجام مازال ضعيفا..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115