الحرب على الفساد: الهجومات .. والهجومات المضادة

للديمقراطية كلفة ..وكلفتها هي الزمن الإضافي الذي تضطر له اضطرارا كلّما أرادت القيام بأمر جلل..فالنظام الديمقراطي مجبر على التفاوض والإقناع وحتى التراجع أحيانا أمام ضغوط

الشارع واللوبيات على عكس النظام الاستبدادي الذي يصل به الغرور إلى أن يعتقد بأنه يحاكي الآلهة عندما تتحول الكلمة عنده إلى فعل دون المرور بكل توسطات القرار في الديمقراطية ..

ولكن ما قد تخسره الديمقراطية في البدايات تربح أضعاف أضعافه في النهايات..
هكذا تبدو لنا الحملة التي شنتها الحكومة على الفساد منذ ما يقارب الشهرين..فلقد اختارت المباغتة على شاكلة الكرّ ليلا في الحروب القديمة..قرار دون سابق انذار ودون تكلفة حوار ولكن نعلم جميعا بأن الديمقراطية حتى عندما تشنّ هجوما مباغتا لتغيّر به موازين القوى على ارض الواقع لا يمكنها أن تجعل من هذا التكتيك إستراتيجية دائمة..فهي مضطرة بصفة تكاد تكون ميكانيكية إلى دفع «الكلفة» التي تحدثنا عنها في البداية : كلفة الحوار والإقناع وكلفة الزمن الضروري لكي تتحول المباغتة الحكومية إلى سياسة عمومية دائمة ..

ولكن للكلفة في بلدان الانتقال الديمقراطي – كتونس – بعدا آخر وهو اختلاط النوايا والشبهات المبثوثة هنا وهناك عن صدقيتها وجديتها..

لقد رأينا كيف أن إطلاق الحملة على الفساد ورغم التلقي الشعبي الايجابي جدّا لها قد أثارت شكوكا عدّة منذ أيامها الأولى : فقيل فيها أنها حملة انتقائية تستهدف أشخاصا ونشاطات بعينها على حساب مراكز الفساد الكبرى..وأنها حملة مكافحة الفساد يقوم بها فاسدون أو من تحوم حولهم شبهة فساد.. وحملة تكتيكية لربح الوقت ولإلهاء المواطنين عن مشاكلهم ومشاغلهم اليومية..حملة تريد بها الحكومة التغطية على عجزها في مواجهة المشاكل الاجتماعية ..ومادامت الحملة لا تشمل سياسيين وأمنيين وإداريين وإعلاميين فالحملة ليست جدية ولن نصل بها الى نتائج ملموسة..

جزء هام من هذه الشكوك تطلقه قوى تريد فعلا محاربة الفساد ولكنها لا تثق كثيرا في حكومة الشاهد ولا تراها مؤهلة – بحكم تركيبتها و«ايديولوجيتها» – لقيادة حرب فعلية وشاملة ضد الفساد..

وهذه هي كلفة الديمقراطية التي تحدثنا عنها آنفا ولكن مع هذه الشكوك المشروعة تكاثرت في الأيام الأخيرة تشكيكات تنطلق جلّها من مصادر قريبة من لوبيات الفساد الاقتصادي والسياسي معا ..ينصبّ جزء من هذا التشكيك على الحكومة برمتها باعتبارها تريد تصفية «خصوم سياسيين» (نعم هكذا يصبح المهربون سياسيين !!) وان هذه الحكومة «منخورة» بالفساد لا في أطرافها فقط – أي بعض الوزراء أو المستشارين – بل في عمقها أيضا – أي رئيس الحكومة ذاته ..وانه لا يعقل أن يحارب الفساد من تحوم حوله شبهات (؟) فساد ..

كما تسعى هذه التشكيكات إلى خلط الحابل بالنابل من أصحاب الأعمال والسياسة والإعلام..

فإذا كان كل الناس فاسدين فلم يا ترى محاربة الفساد ؟
هذه الهجمات المعاكسة بدأت محتشمة وتراها الآن مستعرة خاصة في شبكات التواصل الاجتماعي وفي بعض «المواقع» الالكترونية : قصف مركز ومكثف الغاية منه إقناع التونسيين بأننا أمام مسرحية إلى أن نعتقد بان الضحايا هم من يقبعون الآن في الإقامة الجبرية وان «المجرمين» هم في بيوت عمليات مظلمة تخطط لاختطاف «الأبرياء» ولتصفية الحسابات مع «الشرفاء» وتترك الفاسدين الحقيقيين أحرارا مكرمين ..

ولاشك أن السلطة السياسية بتذبذبها واضطرابها تعطي بعض المعقولية لجزء من هذه الأراجيف خاصة عندما نرى سعيين متناقضين اليوم : ملاحقة المتهمين بالفساد من جهة والحرص على المصالحة مع بعضهم الآخر من جهة ثانية ..

وما يتواتر اليوم من أخبار من جهات نافذة في الحكم تقول بأنه قد آن الأوان لوضع حدّ لهذه الحملة على الفساد..

فعلا هنالك من يريد في السلطة – ولا نقول الحكومة – أن تقتصر هذه الحملة على بعض كبار المهربين وأن يغلق القوس الذي افتتح ذات 23 ماي الفارط حتى لا تأتي على «الأخضر واليابس»

ولتأكيد هذا التوجه يحرص هؤلاء على قتل جذوة هذه المعركة في العمق بواسطة التحوير الوزاري القادم وبالضغط على رئيس الحكومة لكي يتخلى عن بعض ابرز المحيطين به وتطعيم الفريق الحكومي بـ «ثقاة» يعرفون جيّدا كيف يلزمون حدودهم..

«كلفة» الديمقراطية تتجلى هنا في هذه الكيمياء المعقدة : كيف السبيل لمواصلة الحرب على الفساد ولإقناع الصادقين بجديتها مع سحب البساط من تحت أقدام من يريدون قبرها دون شنّ حرب لا هوادة فيها بين أجنحة السلطة لان ذلك يقضي على الدجاجة وعلى البيضة معا..

«كلفة» ستتحدد في معارك ثلاث :
التوسيع التدريجي والجدي الكمي والكيفي للملاحقة الإدارية والقضائية لشبكات الفساد بأصنافها ..

عدم الخضوع لابتزاز المحاصصة في التحوير الوزاري القادم

مأسسة الحرب على الفساد وتحويلها إلى سياسة دولة عبر إعطاء كل الهياكل الرقابية والردعية الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة لذلك وخاصة الاستقلال عن السياسة السياسوية وتقلباتها..

أما الهجومات المعاكسة لشبكات الفساد فلن تتوقف الا بتوقيف شرايين المال والمصالح ..فهي عبارة عن صرخة الديك المذبوح تحدث ضجيجا قويا ولكنها كالزبد يذهب جفاء ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115