في خطاب تبرير الفساد: «الأقربون أولى بالمعروف»

شتان بين الأمس واليوم... في ما مضى كان الشخص الذي يريد أن «يسلّك» «أموره يقصد التجمعّيين فيبحث عن الشخص الملائم وفق طبيعة الخدمة ويلتمس تدخله باعتبار أنّه صاحب نفوذ ويحتل منصبا ويضطلع بدور وفق التراتبية الهرمية فيذلل الصعوبات

ويصنع المعجزات فينقل الفتى من المعهد الفلاني إلى المعهد النموذجي بيسر أو يعين ابنا بلا درجات علمية في أكبر المؤسسات .... «وإذا قصدت فاقصد دار كبيرة». أما اليوم فقد تعددت الأحزاب وتشتت مراكز السلطة وتضاعف عدد الفاعلين فبات الأمر أكثر تعقيدا ويتطلب مدة زمنية أكبر لتحديد انتماء المسؤول والبحث عن الوسيط الملائم . فإذا رام أحدهم دفع رشوة لجهاز ييسر أموره في البلدية أو في غيرها من المؤسسات فلزاما عليه أن يسأل: «المعتمد من أي حزب ؟» و«المدير منين ؟» وعلى هذا الأساس يتصرف فيلتمس خدمة من المقربين من «الباب العالي». وتلك نعمة أولى من نعم التحول الديمقراطي.

ولا تتوقّف التحولات المترتبة عن الاستقطاب الأيديولوجي عند هذا الحدّ فقد لمسناها في سلوك القوم في مختلف الأفضية وكأنهم يعيدون إلى الأذهان ممارسات ألفناها في أجواء الأعراس والاحتفالات تتجلى في سؤال يطرح عند استقبال الضيوف «إنت من دار العروسة ولاّ من دار العروس» .فها نحن في المؤتمرات والاجتماعات العامة نطرح سؤالا بات ضروريا: «منا ولاّ منهم؟» وعلى أساس الإجابة نتموقع ونحدد سلوكنا فنجهر بالقول أو نؤثر الهمز والإشارة بالعين... وهو إجراء وقائيّ حتى لا نصطدم بالخصوم فتكون المعركة وبئس المصير.

ولا تسل عن انعكاسات هذا السلوك التمييزي والمتسم بالحذر وتوجس الشر والخطر من الآخر غير الشبيه على مستوى رسم السياسات وصياغة البرامج والمشاريع الخاصة والعامة والتي تجاوزت الأطر المألوفة لتشمل الجامعة والجامعيين ومراكز البحث «وإنتاج المعرفة».

فكم من مشروع عقد بين ذوي القربى والأصحاب والخلان، وكم من «خبزة ‘قسّمت على صديقات الصبا أو بنات أو أبناء الجهة...تتأمل في قائمة المشاركين في التنسيق بين هذه البرامج فتجد الزوج والزوجة أو الأب والبنت ، ثم الصديق والخل الودود الذي لا يغيب عن طعام فتجده في كلّ مشروع يتطفل على جميع الموائد عدّته في ذلك «العقد’ الذي يجمعه بصاحب او صاحبة المشروع ...وهكذا تصاغ رسم السياسات وإنشاء الجمعيات والمؤسسات والمشاريع بل حتى الماجستارات العلمية والندوات ومخابر البحث وغيرها، والأنكى من كل ذلك أّنّ القوم لا يشعرون بأدنى حرج في الاشتغال وفق منطق القبيلة والغنيمة بل نراهم في مختلف الاجتماعات لا ينفكون عن انتقاد الساسة ونعتهم بألف نعت ونعت ولا ينفكون عن تحليل النصوص موضحين الخرق الحاصل وسوء فهم أسس المواطنة و»تعرية’ الانتهازيين الذين لا يقدرون الشفافية والنزاهة والحوكمة الرشيدة ولا يحترمون القوانين والدستور...

وعندما يغيب معيار الكفاءة يكون المشهد مرعبا منذرا بالخراب .فأنّى لمن مارس الفرز الأيديولوجي والجهوي والإقصاء أن يساهم في تجذير الديمقراطية؟ وأنى لمن اعتبر ذوي القربى والخلان أفضل مؤازر أن يكرس ثقافة المواطنة ؟ وأنى لمن صاغ السياسات والدروس والمؤتمرات لمكافحة الإرهاب على أساس الولاء والصداقة وانتهاز الفرص واقتسام الغنائم بين الأحباب... أن ينجح في ما يصبو إليه وأن يخدم البلاد والعباد؟

إنّ إعادة إنتاج المنظومة القديمة مهمة لا ينهض بها الفاعلون السياسيون فقط ... إنّها ممارسة وسلوك وعقلية نلمسها في كلّ المستويات بدءا بالنخب وصولا إلى عامة الناس ... غير أنّ الفرق جليّ بين من يفعل ذلك عن وعي متسلحا بترسانة من المبررات كصلة الرحم وصحبة الجامعة أو الزنزانة أو الحومة، والمصلحة المشتركة، ونفعني نفعك... متعمدا حجب انتهازيته من خلال «بلاغة الخطاب» وذاك الذي يبرر سلوكه بمبرر وحيد وبلا تحذلق ... «الأقربون أولى بالمعروف» و«الي تعرفو خير من اللي ما تعرفوش».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115