بعد إقالة وزير الذات المتورمة وانتصار نقابيي كسر العظام: المدرسة العمومية، هذه الضحية الدائمة !

حصل مساء يوم الأحد ما كان متوقعا منذ أسابيع طويلة: إقالة وزير التربية ناجي جلول المصحوبة بإجراء مماثل مع وزيرة المالية لمياء الزريبي ..


ولكن إقالة ناجي جلول لن تمرّ دون طرح أسئلة محيّرة حول العلاقة المعقدة التي تربط الحكومة بأحد أطراف وثيقة قرطاج ونقصد به الاتحاد العام التونسي للشغل وحول مصير ما سمي بالإصلاح التربوي ومصير المدرسة العمومية من ورائه..

منذ أن ناصبت نقابات المربين الوزير العداء بصفة كلية وشاملة أصبح من الواضح أنّ أيامه أضحت معدودة وأنه تحول إلى عبء على الحكومة وعلى البلاد وذلك بغض النظر عن مسؤولية كل طرف في هذا التصعيد غير المسبوق .

يخطئ من يعتقد بأنه بإمكان وزير أن يكون مرفوضا بصفة قوية ودائمة من القطاع الذي يشرف عليه وان يواصل مع ذلك عمله دون إشكال..الفرق أنّه عندما تنسد الأفق في الدول الديمقراطية يستقيل الوزير المعني بالأمر مهما كانت قيمته العلمية (مثال الوزير والعالم الكيميائي كلود اليقر في فرنسا مازال ماثلا أمام أعيننا )..

فإقالة جلول كانت محسومة منذ أسابيع ولكن حرص يوسف الشاهد بالا يكون ذلك وفق التوقيت الذي اختارته نقابات التعليم ..

والسؤال الآن ما هو مآل ما سمي بالإصلاح التربوي الذي أقدم عليه الوزير المقال بمعية اتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان والمعهد العربي لحقوق الإنسان ؟

لنقل منذ البداية أنه باستثناء إصلاح 1958 مع محمود المسعدي لم نجد أيّ إصلاح تربوي في تونس وقف على حقيقة الوهن في المدرسة العمومية وأقدم على تغيير جدي للمعطيات فيها..

فجلّ الإصلاحات التي قامت خلال كل هذه العقود الأخيرة جاءت لتلبية تصورات الكهول وتعبيرا عن هواجسهم الفكرية والسياسية ولم تضع أي منها بالوضوح والصرامة اللازمين الإصبع على عين الداء : لماذا نجحنا في بلادنا في توسيع قاعدة المتعلمين والمتمدرسين دون أن ننجح في تحسين جودة التعلّم والمتعلّم ؟ لماذا قبلت مدرستنا ومجتمعنا بأن يكون التفوق والتميّز المدرسي محصورا في نخبة قليلة العدد في البداية ثم نخبة تعيد إنتاج نفسها في النهاية بما عطل نهائيا المصعد الاجتماعي خلال أكثر من عقدين من الزمن ؟ !

لماذا أصبح التفوق المدرسي لأبناء الطبقات الشعبية أمرا نادرا ؟ ولم لم ننتج في الأغلب الأعم إلا تفوقا محدودا لا يتراكم إلا بتضافر المستوى المادي والثقافي للأولياء ؟

تتحدث كل سياساتنا التربوية إلى حدود هذا اليوم عن تكوين «المواطن» المتفتح على عصره والمتشبث بهويته والفاعل في بيئته ولا نتحدث مطلقا عن كيف نجعل من جلّ تلاميذنا متفوقين منذ الصغر في الرياضيات والعلوم واللغات !!

أحد الأبعاد الأساسية للأزمة الاجتماعية والجهوية في تونس أن مدرستنا العمومية لا تهيئ للتفوق والامتياز بل تكتفي بمعارف متناثرة وبملكات ضعيفة لا تؤهل صاحبها للمنافسة الحقيقية في سوق الشغل ولا للقدرة على الانتصاب للحساب الخاص ولا للنجاح والتألق المهني عندما يلتحق بالحياة العملية ..

ما لا نريد الاعتراف به منذ عقود هو أن المدرسة العمومية قد رضيت بالتفاوت الاجتماعي والجهوي الأصلي بداية ثم عمقته ثانية إلى أن رأينا أن خريجي الباكالوريا في جهات عديدة لا يتمكنون من الفوز ولو بجزء يسير ممّا يسمى بالشعب النبيلة ..

هل سعى المدعو «الإصلاح التربوي» المنطلق منذ سنتين إلى تشخيص دقيق لهذه الوضعية ولتجاوزها الأمثل ؟.. عندما نقرأ «الكتاب الأبيض» وهو وثيقة مشروع إصلاح المنظومة التربوية في تونس والصادر عن وزارة التربية في ماي 2016 نكتشف للأسف بأننا بعيدون كل البعد عن مجرد إدراك عمق أزمة المدرسة العمومية بل وكأنّ هنالك رضا بهذا القدر المحتوم : مدرسة التفوق لنسبة مئوية ضئيلة جداّ ومدرسة الملكات الضعيفة للأغلبية هذا إن لم تنقطع عن التعليم لأن نصف الشباب المتمدرس فقط يتحصل على شهادة الباكالوريا بينما ينقطع النصف الثاني وسط الطريق بمعدل سنوي يتجاوز مائة ألف تلميذ وتلميذة وذلك منذ أكثر من عشرين سنة ..

لنقلها بكل وضوح وبكل الم كذلك : لا أحد ،تقريبا، في تونس معني بإصلاح المدرسة العمومية لنجعل منها «مصنع» الامتياز لا الإخفاق والفشل .. لا وزارة التربية ووزراؤها المتعاقبون ولا نقابات التعليم التي يقف مفهوم الإصلاح عندها في مراكمة الامتيازات لساعات تدريس أقل أو التغني ببعض الشعارات السياسية كـ«تعليم ديمقراطي ..و«هوية وطنية» و«جامعة شعبية» التي تثلج صدور قائليها ولكن لا تحسن قيد أنملة في تمكن تلميذ في القصرين أو القيروان أو تونس من التملك المتميّز لمكتسبات التعليم الأساسية في الرياضيات والعلوم والقراءة ..والحال أن لا أحد بإمكانه اليوم جهل أو تجاهل نتائجنا في كل التقييمات الدولية والتي تثبت بأن %90 من تلاميذنا في سن الخامسة عشرة هم في أحسن الحالات في المستوى البسيط أو دونه وأن نسبة المتفوقين فيهم لا تبلغ %1 بينما تصل إلى أكثر من النصف عند متصدر هذا الترتيب (تقييم «بيزا» لسنة 2015 لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية )..

لماذا نرفض جميعا في تونس إصلاح المدرسة العمومية ؟
لأنّ إصلاحا جدّيا سيخرج الجميع من دائرة الرفاه (zone de confort) عند السياسي والإداري والمربي والمثقف والولي ولأنّ وضع الرداءة هذا قد تكيف معه الجميع ولأن لا أحد مازال يؤمن بمركزية المدرسة العمومية ولأن التلاميذ في سن مبكرة لا يتظاهرون ولا يحتجون .. ولأننا ببساطة لا نؤمن بأن التميّز والتفوق ممكن للغالبية العظمى للتلاميذ..

لاشك أن الاستفزازات المتواصلة والأنا المتورمة عند ناجي جلول أفسدت الأمور بدل إصلاحها ولكن لا ينبغي أن ننسى أيضا أن النقابات وقفت ضدّه لأنه قال بأن المربي هو المسؤول عن المنتوج التربوي وأنه دون تغيير جذري في التكوين الأصلي والرسكلة للمربين فلن ننتج مدرسة أفضل..

وعندما نقول المربي فنحن نرمز إلى كامل المنظومة التي تنتج المربي من تكوين أصلي ومكانة اجتماعية وسلم تأجير وانخراط في الجودة ومحاسبة على المردود وسرعة تقييم الثغرات.. وأخشى ما نخشاه هو ألا يقدم خليفة ناجي جلول على أي إصلاح ولو جزئي حتى لا تغضب عنه النقابات ويقال كسابقيه...

تونس لا تحتاج إلى إصلاح تربوي يقول لنا ما هي القيم العامة التي ينبغي أن نربي عليها أطفالنا ..

نحن نحتاج إلى إصلاح يجعل من التميّز الدراسي أفقا ممكنا للجميع مهما كانت الظروف الاجتماعية للعائلة ومهما كانت المنطقة التي تعيش فيها..

هذا الإصلاح مازال ينتظر وزيرا يقدم عليه ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115