Print this page

تعطّلت لغة الكلام فصار «الشاهد» شاهدا...

لا نخــــال أنّ رئيـس الحكومة عندما قرّر زيارة تطاوين بمعية فريق من الوزراء كان ينتظر هتاف الجماهير وترحيب الشبان بتشبيب رئاسة الحكومة بل إنّ ‹الشاهد› كان يعلم مسبقا أنّه سيواجه اختبارا عسيرا على مستوى التواصل مع المحتجّين والتفاوض مع ممثليهم بهدف

إقناعهم بأهميّة الحلول التي توصّل إليها لتجاوز الأزمة. ولئن استعدّ «الشاهد› لهذه الزيارة الرسمية بانتقاء المجموعة المكلفة بالدفاع عن الخيارات الحكومية فإنّ مسار الزيارة بيّن بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ حزمة الحلول لا تكفي، وأنّ الاحتقان الشعبي قد بلغ أقصى حدّ فانقلبت المحاورة المتوقعة إلى مواجهة عنيفة، وامتنع الحضور عن الإصغاء إلى الخطاب الرسمي المفترض، وفرضوا تصوراتهم بالعنف وهكذا صار «الشاهد» شاهدا على ضعف الحكومة ومأزق الدولة وقلّة حيلة المسؤولين.

لا نشكّ في وعي «الشاهد» بما آل إليه الوضع ورغبته الجادة في معالجة أزمة استفحلت بعد سنوات من انتظار الدواء الناجع ولكن هل تكفي الرغبة والاستعداد للبحث عن مخارج؟ لقد تضافرت عوامل كثيرة لتجعل هذه الزيارة غير ناجعة من ذلك السياق الذي جاءت فيه والمتسم بالانشقاق بين الداعمين للمُصالحة والرافضين لها ، والاستعداد للتعبئة الانتخابية المقبلة هذا فضلا عن أزمة انهيار الدينار وما صاحبها من مخاوف تسرّبت إلى جميع شرائح المجتمع. يضاف إلى كلّ ذلك أنّ اتّخاذ قرار التفاعل مع المحتجين قد جاء متأخرّا ومعبّرا في الآن نفسه عن أزمة الثقة. فبعد تداول أخبار المتصارعين على الكراسي والتسريبات هنا وهناك والفساد داخل مؤسسات الدولة وانحراف عدد من نواب الشعب عن خدمة الشعب صار المحتجون غير مستعدين للإصغاء أو التفاوض أو التحاور أو التنازل إنّه الرفض التام لطبقة سياسية خيّبت آمالهم وعبثت بمصائرهم واستهانت بقدراتهم فما عاد بالإمكان استيعاب خطاب محمّل بالحلول أو المسكنات.

وها أنّ قدر ‹الشاهد› يسوقه ليكون «الشاهد» على تحوّل وجهة مسار التحوّل الديمقراطي من «تجربة فريدة وتبشّر بالنجاح» إلى تجربة معبّرة عن عجز الطبقة السياسية عن إدارة المرحلة بكلّ مسؤولية. وها أنّ «الشاهد» يشاهد بأمّ عينه كيف تحوّلت الطاقة التي يتميّز بها الشباب من طاقة بناء إلى طاقة هدم وكأنّ لسان حال أولائك الذين واجهوا رئيس الحكومة بـ«الرخ لا» يردّد : «قد أحرق نيرون روما» فما عاد أغلبهم يؤمن بجدوى الكلام ولا الفعال وما عاد أغلبهم يدرك أن التحركات التي يتمسّك أصحابها بأنّها سلمية تتضمّن مؤشرات تهدد بحرق الأخضر واليابس.

يدرك «الشاهد» اليوم أنّ عليه أن يواجه تراكمات الماضي البعيد والماضي القريب وأن يتحمّل تبعات الأميّة السياسية والقانونية وهفوات المتطفلين على عالم السياسة والهواة وأرباب المصالح وأن يدفع ثمن الخيارات السياسية المتعجلة وغير المدروسة. ولكن أنّى له أن يتجاوز مرحلة الإدراك ليحكم إدارة أعسر مرحلة والحال أنّه لم يقنع الجماهير بأنّه مختلف عن السابقين خطابا وممارسة وأداء؟ أنّى له أن ينتج خطاب التفاؤل والحال أنّه لم يثبت أنّه صاحب رؤية سياسية جديدة ترسم معالم تونس الغد؟ أنّى له أن يحظى بثقة الجماهير والحال أنّه لم يتسم بالشجاعة المطلوبة ولم يتجرّأ على ما لم يفعله غيره فالقوم ينتظرون «ضربة المعلم».

ليست المسألة متوقفة على إيجاد الحلول المستعجلة والواقعية ومحاولة «استرضاء» المحتجين بل هي أعمق بكثير... إنّها مسألة تمثّل للفعل السياسي في ضوء الدراسات المستقبلية وإعادة النظر في آليات العمل السياسي وفق متطلبات الواقع المتشعب والمتحول .وطالما أنّ أداء الفاعلين السياسيين لم ينجح في خلق الديناميكية المطلوبة فإنّ الواقع المتحرك هو الذي سيسمح لفاعلين جدد بأن يقودوا القاطرة وأن يسدوا الفراغ شرعتهم «إنّ الطبيعة تأبى الفراغ».

المشاركة في هذا المقال